[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text]في الأدب الذي يُكتب على خلفيّة نزاعات حول رقعة جغرافيّة معيّنة، وعلى خلفيّة انعدام المساواة بين مجموعتين سكّانيّتين تتقاسمان الحيّز ذاته، تَكتسب شاعريّة الحيّز أهمّيّةً خاصّة. على هذه الخلفيّة، التعامل مع الحيّز والمكان لدى الكتّاب الفلسطينيّين يحمل الكثير من الأهمّيّة والإثارة. أصدر البرغوثي حتّى الآن مجموعتَيْ قصص قصيرة : نضوج (2006)، وَ بين البيوت ( 2011)، وصدرت له مؤخّرًا باكورة أعماله الروائيّة بردقانة (2014). في معظم أعمال البرغوثي الأدبيّة، يحتلّ المكان موقع الصدارة، ونتحدّث هنا عن مدن داخل دولة إسرائيل، نحو: عكّا، وحيفا، ويافا، والناصرة، وغيرها.

ينسحب هذا الأمر أيضًا على قصّة “ضربة قاضية”.¹ وتعكس توصيفات مدينة عكّا في هذا الكتاب الحالة النفسيّة والمهنيّة للبطل، وتعبّر المواقع التي يسافر إليها خارج البلاد في مشواره الاحترافيّ القصير عن صعود نجمه ومن ثَمّ أُفوله. تتحدّث القصّة عن ملاكم فلسطينيّ يحمل الجنسيّة الإسرائيلية بدءًا من اكتشاف موهبته وهو في الثالثة عشرة من العمر، وعلى امتداد سنوات السبعين. المباريات التي يشارك فيها تشكّل محطّات القصّة: من عكّا في سنة غير معلومة إلى تل أبيب في العام 1973، وإلى باريس في العام 1977، وإلى نيويورك في العام 1978، ومن ثَمّ إلى دوسلدورف الألمانيّة في العام 1997، والعودة إلى عكّا نقطة البداية في العام 1980، بينما كان من المفترض فيه أن يكون قد حطّ في موسكو للمشاركة في إحدى مباريات الملاكمة في إطار الألعاب الأولمبيّة.

تبدأ القصّة وتنتهي في النقطة ذاتها في عكّا في العام 1980، وبطل القصّة “أديب النسناس” جالس أمام شاشة التلفاز يشاهد مراسيم افتتاح الأولمبياد في موسكو. كان من المفترض فيه أن يكون هناك، لكن الذي حصل هو أنّ إسرائيل ودولًا أخرى كثيرة أعلنت عن مقاطعتها للأولمبياد بسبب الغزو الروسيّ لأفغانستان. بقي “أديب” في منزله ولم تَتَسنَّ له المشاركة في المباريات (وهو ما يثير الكثير من المفارقة على خلفيّة ممارسات إسرائيل في الضفّة الغربيّة). تُحكى القصّة كومضات استرجاعيّة لمسيرة “أديب” الرياضيّة، من بدايتها حتّى نهايتها. في الجملة الأخير، نعرف أنّ “أديب” لن يشارك في سباقات الملاكمة بعد اليوم.

تُفتتَح القصّة على النحو التالي: “عندما شاهد أديب وفود الرياضيّين تلوّح بأيديها للجماهير المصّفقة في إستاد موسكو تحسّر، “كان عليّ أن أكون هناك”. لقد وعد نفسه بالميداليّة الذهبيّة، وكلّهم توقّعوها له […] خرج إلى زواريب حارة العبيد المظلمة واختفى في عتمتها، مشى”… (ص 103). من خلال مشاهدة البطل للتلفاز، تَستحضر القصّةُ المكانَ الذي لم يصله هو بنفسه، والتَّوْقَ إلى المكان الذي أراد أن يصله، والإحباطَ بسبب المراوحة في المكان، ونهايةَ المسيرة الرياضيّة، ونهايةَ القصّة.

الجمل الأخيرة في القصّة تُمَوْضِع “أديب النسناس” في النقطة نفسها تمامًا، وما المراوحة في المكان سوى التجسيد الأكثر وضوحًا لـِ “الضربة القاضية”- للهزيمة: “اختفى، بعد الاحتفال الافتتاحيّ المؤلم، في زقاقات حارة العبيد ومشى في شرايين المدينة المحصّنة وعندما حطّ عند السور وقف عليه، البحر سجّادة سوداء والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته. لم يقفز عن السور لكن عنده قرّر: “لن ألاكم بعد اليوم”” (ص 110).

بين الجملة الافتتاحيّة ونهاية القصة، تنتقل رحلة “أديب” مع الملاكمة من مكان إلى آخر ومن نجاح إلى نجاح أكبر. يبدأ مشواره في عكّا في “قاعة صغيرة بجانب الفنار” (ص 104). المكان الصغير   الذي فيه “كيسان جلديّان ممتلئان بالرّمل” هو محطّة البداية لانطلاقته اللاحقة، وهو يرمز إلى الأمل بتحقيق المجد في المستقبل: من هذا المكان الصغير المهمل لا يمكن سوى التقدّم إلى الأمام أو “التوحيل”. في بداية القصّة يشكّل الفنار وسور عكّا والبحر رموزًا إيجابيّة تسلّط الضوء على “القدرة الكامنة على التواصل مع العالم الواسع، وفي نهاية القصّة ترمز الأماكن ذاتها إلى الطريق المسدود الذي وصل إليه “أديب النسناس”، وإلى انسداد الأفق وانكماش الحيّز.

الفنار يرمز إلى الضوء والسّفر بين العوالم، وهذا ما حصل بالفعل لرحلة أديب مع الملاكمة حيث نراه يمتطي بساط الريح ويصل إلى بلدان شتّى وراء البحار. في بداية القصة، يصف الكاتب سور عكّا على النحو التالي: “كان خلال تلك السنين يركض حول ساحة السور الشرقيّ الذي بناه العكّيّون أيّام حكم أحمد باشا الجزّار في أواخر القرن الثامن عشر، سورٌ بنّيٌّ متين حصّن المدينة من البحر والغزاة، وينزل عنه ليجوب الملعب المرسوم […] لعشر مرّات متتالية، وكان أديب يمتحن لياقته إذا أنهى ركضه أسرع من اليوم السابق” (ص 107). غريمه الفرنسيّ يُشبَّه بنابوليون: “المتين والقصير القامة كنابليون” -وهو إطراء مثير للريبة إذا تذكّرنا هزيمة نابوليون القائد الأعظم، ومحاولاته الفاشلة اختراق أسوار عكّا.

في نهاية القصّة، يجري توصيف المكان ذاته كـَ “سَجّادة سوداء” والأفق والضوء غائبان تمامًا “والأفق لا يستجيب لنداء الفنار ولا لصرخته”. الآن يُختزَل مكان رحلاته المتعرّجة إلى أزقّة عكّا، إلى حين وصول “أديب” إلى سور المدينة الذي يخبّئ في داخله الدلالة الرمزيّة للحاجز وَ “التوحيل”. السور الذي يشكّل رمزًا للحراكيّة والقوّة في بداية القصّة يتحوّل إلى حاجز.

المحطّة الأولى خارج عكّا هي تل أبيب التي لا يُنازِل فيها “أديب” ملاكمين آخرين فحسب، بل يواجه كذلك صرخات الاستهجان “عربيّ قذر” التي يطلقها الجمهور “بلهجة المهاجرين المغاربة، بعبريّة عربيّة” (ص 106). هذه الصرخات تجسّد تَشابُك اللغتين العربيّة والعبريّة على نحوٍ يحمل الكثير من المفارقة، فمن يصرخ “عربيّ قذر” هو نفسه من أصل عربيّ، عربيّ-يهوديّ رضع العربيّة مع حليب أمّه. هذا الأمر يطرح أسئلة حول العلاقة بين اللغة والانتماء للمكان: فعلى الرغم من أنّهم يقاسمونه لغة مشتركة، ما زال القادمون الجدد (المهاجرون) من المغرب يحاولون طرد العربيّ من الحيّز الذي يعتبرونه حيّزهم لوحدهم. المفارقة تزداد شراسة لأنّ “أديب” هو ابن هذه البلاد، ومن سكّانها الأصليّين، على خلاف الجمهور الذي يتحدّث العربيّة وجُلُّهُ من المهاجرين. هذا هو الاستقبال الموجع الذي يحظى به أديب عند خروجه من عكّا إلى تل أبيب. لكن أبناء حارته يستقبلونه بحفاوة بالغة عند عودته ظافرًا من تل أبيب.

في المحطّة التالية، في مُنازَلة باريس، ثمّة مهاجرون مغاربة بين الجمهور، فلا بدّ من المقارنة إذًا: على خلاف المغاربة اليهود في البلاد الذي يطلقون الشتائم تجاهه، يبدأ المغاربة الباريسيّون قبل إطلاق المباراة بإطلاق هتافات التشجيع لـِ “أديب”. هنا تشكّل عروبته ركيزة التماثل في الحيّز الفرنسيّ الغريب.

في هذه القصّة يخضع الغرض (المكان) إلى تحوّل جوهريّ بما يمثّل، وهو يرمز إلى أمر وعكسه، لا سيّما عندما يُعْرَض في مكان وزمان آخرَيْن. هذا ما حصل -على سبيل المثال- بالنسبة للفنار والسور. السور الذي يرمز إلى المتانة وتَسَلُّق القمم في بداية القصّة، يتحوّل إلى حاجز في نهايتها؛ كذلك الأمر بالنسبة للمهاجرين المغاربة الذين يطلقون العنان في البلاد للكراهِيَة، وفي باريس تصدح حناجرهم بعبارات التشجيع. على هذا النحو تعبّر القصّة عن نسبيّة الحيّز، فهو ليس بالكيان المطلق، ويمكن صبّ مدلولات ومَعانٍ وهُويّات مختلفة في داخله.

كلّ مكان ينازل فيه “أديب النسناس” ملاكمين آخرين يعبّر عن ارتفاع في مستوى الصعوبة، وعن تقدُّم نحو نجاح أكبر: كلّ مكان هو ذروة جديدة في سلسلة الإنجازات، وخطوة أخرى نحو عالَم بلا حدود، بعيدًا عن المكان الضيّق والمحلّيّ. من هنا كان السقوط في النهاية حادًّا ومؤلمًا وغير متوقَّع، ويتحوّل ما كان يبدو صعودًا مستقيمًا إلى حركة دائريّة تبدأ وتنتهي في المكان ذاته، إلى مكان خانق ومخنوق. نجاحات “أديب” لا تُكسبه امتيازات خاصّة في المجتمع -على الأقلّ ليس بحسب الأحاسيس المتولّدة في الفقرة الأخيرة التي تصف واقعًا ضيّقًا أسْوَدَ مسدودَ الأفق.

ونسأل الآن: من هم هؤلاء الذين يُنازِلهم “أديب؟ هذا الأمر يتغيّر على امتداد القصّة. في البداية، ينازل أديب ملاكمين يهود، لكنّه في النهاية يمثّل هؤلاء اليهود أنفسهم. هل يعني الأمر أنّ الانتصارات هي بداية سقوطه، وهي تعبّر عن الوجود المستحيل للفلسطينيّين في الحيّز القائم؟ كيف يمكن تفسير نضالات “أديب” وإخفاقاته؟ في نهاية المنازلة، يبدو أديب كالعاجز الذي لا يُفلِح في الوصول إلى أيّ مكان على الرغم من موهبته الفذّة. وهو بهذا يشبه سور عكّا الذي يرمز إلى القوّة، لكنّه يرمز أيضًا إلى الانغلاق والانخناق. هذه القصّة لا تتناول المواجهة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين على نحوٍ صريح، لكن القصّة كلّها تصوّر نضالًا من خلال الملاكمة.

يمارس بطل القصّة لعبة الملاكمة كي ينجح ويتقدّم، وهو يمثّل (ويجسد) نضال الفلسطينيّ الفرد، المواطن الساذج الذي يسعى لقطف النجاحات الفرديّة والشخصيّة في الحيّز الذي يعيش داخله. على امتداد الدرب المتعرّج في القصّة، لا يمكن الانفصال ولو للحظة واحدة عن النضال القوميّ الذي يتغلغل إلى الفضاءات الفرديّة والخاصّة -وعلى نحوِ ما يستدلّ من هذا العمل، يؤدّي المكان فيه دَورًا حاسمًا ومركزيًّا.

 


* ترجم المقال من العبرية: جلال حسن

1. “ضربة قاضية” داخل المجموعة القصصيّة بين البيوت التي صدرت عن دار النشر: دار ملامح للنشر، القاهرة، 2011. الاقتباسات الواردة في المقالة أُخِذت من القصّة باللغة العربيّة (المترجم).[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” image=”179″ heading=”د. اريئيل شيطريت”]د. أريئيل شيطريت هي محاضرة في الأدب العربي الحديث في جامعة بن غوريون في النقب، ومحاضرة في السينما الفلسطينية في الجامعة المفتوحة[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text]استُقبلت رواية الكاتب أنطون شمّاس (من مواليد قرية فسوطة عام 1950) عربسك عند صدورها بكثير من الحفاوة الأدبيّة والسياسيّة، وألهبت أَخْيِلة النقّاد والباحثين الذين عملوا على تناولها بالتحليل من جوانب شتّى. المفاجأة الأولى تمثّلت في أنّ كاتبًا عربيًّا يكتب بلغة عبريّة فخمة وثريّة تحمل في طيّاتها معانيَ ومستوياتٍ عميقةً قلّما يُعثر عليها في كتابات أدباء عبريّين، ويُنتِج عملاً أدبيًّا يتكاتب مع أعمال أدبيّة لمبدعين يهود بارزين، الأمر الذي دفع الكثير من الباحثين الأدبيين للكتابة حول حول “التناصّ” ((Intertextuality في هذه الرواية (غلوزمان، 2003). ترتكز أحداث الرواية على سيرة حياة الكاتب الحقيقيّة وعلى حالته المدنيّة السياسيّة كعربيّ مسيحيّ مواطن دولة إسرائيل مولود في وطنه بعد أحداث النكبة بعامين. ويكتب حنان حيفر (2013): “لقد سعى أنطون شمّاس من خلال روايته هذه إلى تأسيس هُويّة إسرائيليّة قوميّة تضمّ بين ثناياها اليهود والعرب كأصحاب هُويّة وطنيّة جديدة مشتركة، ولم يكتفِ بمواطَنة مشتركة وحقوق وواجبات متساوية. لقد أسّس شمّاس في رواية عربسك قوميّة إسرائيليّة، وكَتَب الرواية في إطارها ومن أجلها. وعلى نحو ما قال هو نفسه بصريح العبارة، إنّ عربسك هي رواية إسرائيليّة أكثر بكثير من أعمال أدبيّة أخرى تُكتب وتصدر في إسرائيل”.

تطرّق شماس بنفسه إلى هذه المواضيع في الكثير من مقالاته، وفي المقابلات التي أجريت معه بعد صدور الكتاب، وفي السنوات التي تلت ذلك. في كتاباته غير الأدبيّة يتحدّث بوضوح وبلغة مباشرة أكثر حول مواقفه السياسيّة وآرائه حول ماضي الشعبين في هذه الديار وحاضرهما ومستقبلهما. غادر شمّاس البلاد منذ سنوات عديدة، وهو يعيش الآن في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ولم يكتب أيّة رواية بعد النجاح الذي لقيته روايته الأولى والوحيدة.

من هذا الكتاب الغنيّ اخترت أن أناقش في عجالة أبعادَ الزمن في الرواية، حيث يتّضح بعد قراءات عديدة أنّها صعبة المنال وعصيّة أكثر وأكثر. حتّى من خلال التصفّح العابر للرواية، يتبيّن أنّ كلّ صفحة تقريبًا تضمّ تاريخًا معيّنًا- إشارة إلى عام، أو شهر، أو يوم محدّد، أو عيد، أو ساعة. في الغالب، تأتي الرواية على ذكر الأحداث التاريخيّة الحقيقيّة من منظور الناس العاديّين الذين لم يكونوا في قلب الحدث، على الرغم من التأثير البالغ لهذه الأحداث على حياتهم. الفوضى العارمة للأزمنة تهيمن على الكتاب، وثمّة “فوضى” في التسلسل الزمنيّ، وقفزات كبيرة بين الماضي والحاضر والعودة عبر تداعيات حرّة، وانتقالات سلسة وشبه طبيعيّة بين العامَيْن 1928 وَ 1982، أو بين الثاني عشر من آذار عام 1982 والثاني من أيلول في سنة غير معلومة. يطلق الكاتب العِنانَ المطلق للعالم الداخليّ للذاكرة التي قادت القصّة، ولا يحاول التخفيف عن نفسه أو عن القارئ من خلال ترتيب الأحداث حسب تسلسلها الزمنيّ.

على الرغم من أنّ الرواية تحفل بالتواريخ التي حصلت فيها أحداث تاريخيّة حاسمة، لا يهتمّ شمّاس إلّا بما يحصل لشخصيّاته، ولأبناء عائلته ولقريته في خضمّها. ثمّة أمثلة عديدة على هذا الأمر على امتداد الرواية، وإلى جوارها تطرُّقٌ غير دقيق للأزمنة كقوله: في نهاية “الخمسينيّات”، أو: “في عشرينيّات القرن”، أو: “في أيّام صوم الأربعين”، أو: “في موسم زراعة الدخان”، أو: “عندما كانت قطّة خالي يوسف تموء في حالة من الهيجان الجنسيّ”. الفوضى العارمة في تسلسل الحبكة تبدأ في الصفحة الأولى التي يوصف فيها جنبًا إلى جنب في تداخل واضح موتُ الجدّة “عَليا” في الأوّل من نيسان عام 1954، وموتُ ابنها (والد الكاتب) “بعد مضيّ أربعة وعشرين عامًا على شهر نيسان المذكور”.

تقصّي أثر التسلسل الزمنيّ العائليّ الذي يُروى بقفزات وبحركات زُخرُفيّة (عربسكات) واسعة وقصيرة، هذا التقصّي متعرّج وشائك. وقائع الأحداث والحروب والتغيّرات التي طرأت على قرية فسّوطة في السنين المئة الأخيرة تتّضح ببطء شديد، ومن خلال “تلصيق” شظايا حكايات والمضيّ قُدُمًا أو العودة إلى الوراء في الزمن. الفصول الوحيدة التي تُقَصّ الأحداث فيها بصيغة الحاضر هي تلك التي تكتب في “آيوا سيتي”، حيث يمكث الكاتب بعيدًا عن وطنه للمشاركة في سمينار دوليّ لكتّاب من جميع أنحاء العالم، ويتصرّف هناك كطالب في ورشة للكتابة، ويوفي بأحداث اليوم على نحو واضح وصريح: “ها أنا أجلس في آيوا سيتي بعد أكثر من عشرين عامًا على مغادرة بيت الطفولة، وها أنا أشعر للمرّة الأولى بعد سنوات طويلة أنّني أستطيع استحضار بيت طفولتي في القرية بروائحه وأحاسيسه وصوره”.

أنواع الزمن في عربسك تتراوح بين الزمن التاريخيّ والزمن الأسطوريّ، وبين الزمن السياسيّ والزمن الفرديّ، وبين الزمن المسيحيّ والزمن الوثنيّ، وبين فصول السنة وسنوات حياة الإنسان من الولادة حتّى الممات. الماضي هو فوضى عارمة في ذاكرة الراوي، ويختلط فيه الواقع والمختلَق مع الحكايات الخرافيّة والمعتقدات والمشاهد والروائح والأصوات والنكهات. على الرغم من أنّ الذكريات تتزاحم في خيال كلّ منّا، وحتّى لدى الكتّاب منّا، دونما أيّ ترتيب، لكن في حالة شمّاس قامت قوى خارجيّة بتهميش الزمان والمكان، وفاقمت من حالة الفوضى المذكورة التي لا يستطيع الراوي الانعتاق منها.

مراوغة الزمن، وحالته المؤقّتة، وسرمديّته ولا-سرمديّته، ومغزى الأزل مقابل حياة الفرد القصيرة، وتبدّل الفصول ودورة الطبيعة، كلّ هذه قضايا شغلت الفلاسفة على مرّ العصور، ودخلت إلى الأعمال الأدبيّة بكلّ أطيافها ومستوياتها. التناقض الهيكليّ بين دورةِ الليل والنهار والشمس والقمر وفصول السنة، من جهة، وخطِِّ حياتنا المستقيم منذ الولادة حتّى الممات، من جهة أخرى، هذا التناقض شكّل مصدرًا للارتباك والتساؤلات العميقة، وما انفكّ يدفع بالإنسان نحو اتّجاهات مختلفة ومتباينة: بدءًا من الإيمان بقوّة عليا قادرة على كلّ شيء، مرورًا بمحاولة استقصاء الطبيعة وترشيدها، وصولًا إلى العدميّة التشكّكيّة. الزمن مفهوم سياسيّ، وعلى هذا النحو يجري توظيفه كأداة لصياغة الثقافات والهُويّات. توقَّفَ علماء الاجتماع والانثروبولوجيا عند الفروق الشاسعة في مفهوم الزمن بين الثقافات المختلفة، وأظهر بعضهم أنّ تأطير الأحداث في زمن محدّد يُستخدم كأداة لتصميم الهُويّة وتأسيس سرديّة تاريخيّة، أو لغرض سيطرة مجموعات مهيمنة على مجموعات أصلانيّة من خلال التحكّم بزمنها (جمّال 2008).

البحث المؤسِّس حول أشكال الزمن والزمكانيّة (“الخرونوطوب”) في الرواية، ذاك الذي قام به ميخائيل باختين ونشره، يجسّد الرابط بين ثلاثة مكوّنات الجانر (النوع الأدبيّ): خصوصيّة الحيّز والزمن اللذين تتطوّر فيهما أحداث القصّة؛ وزاوية نظر الراوي المتفرّدة؛ والرمزيّة التي تنغرس جذورها في المستويات المبكّرة والأوّليّة للميثولوجيا. على ما يبدو، ليس ثمّة طريقة أفضل من هذه لوصف رواية عربسك. محاولة قَصّ حكايات متشابكة “تتحاضن تارة، وتنفصل تارة أخرى، تتماوج وتنجدل وتتشابك داخل الرقشة اللانهائيّة للذاكرة”، هذه المحاولة تتحطّم في نهاية المطاف على صخرة الزمان والمكان اللذين يعيش الكاتب داخلهما، ولم يتبقَّ له سوى تجميعها في شِواله، وتنقية رأسه من داخل الشظايا والسفر بعيدًا إلى ما وراء البحار.

بودّي أن أعرض مفهوم ” الزمن المشظَّى” كتوصيف ملائم لمفهوم الزمن في هذه الرواية، وهو مفهوم يلائم روايات فلسطينيّة أخرى. هذه القصّة مبنيّة من كِسرات وشظايا جمعها الكاتب كطفل وكبالغ وكقارئ وكمستمع، كابن هذه البلاد وكسائح، وكشاعر مرهف الحسّ، وككاتب مقالة يحمل في جَعبته مِبْضعًا حادًّا. لكنّه لا يحاول سَبْكَ هذه الشظايا ليكوّن منها صورة متكاملة للعالَم، وذلك أنّ هذا العالَم الذي يحيط به، عامًّا كان أَم خاصًّا، قد تَحطّم وتناثرت شظاياه، وما من طريقة للتعامل معه ككاتب إلّا السعي لشقّ طريق بين الشظايا وداخلها وتوصيفها شظيّة إثر شظيّة بنوع من العشوائيّة الزمنيّة، ودونما حبكة تعتمد التشويق، تمامًا كما هي-أجزاء قصّة مهشّمة.

.

الزمن الفلسطيني المشظَّى يرافق أنطون شمّاس على امتداد حياته، ويأخذ شكلًا ملموسًا وتهكّميًّا في صورة النهاية التي تقدّمها الرواية، عندما يُستدعى اليهوديّ دافيد “خبير المتفجرات” المرخَّص من قبل السلطات لتفجير منطقة صخريّة وعريّة في أحد أطراف القرية الذي اعتاد الأطفال أن يلهوا فيه، وذلك لغرض بناء منزل عصريّ. شظايا الصخرة المتطايرة “تأخّرت لبعض الوقت في السماء، لكنّها تهاوت في النهاية على رؤوسنا، فارتفعت غيمة غبار من المكان الذي جثمت فيه الصخرة منذ اليوم الذي وضعها أهل الجنّ على فتحة مغارة موتاهم”.

تَتَبُّعُ خطى الزمن الداخليّ لهذا العمل الأدبيّ، الزمن “العربسكيّ” الخاصّ، الزمن المتعرّج، والمضلِّل، لا يُفضي إلى نقطة نهاية، ولا إلى انبلاج أو حلّ أو فكّ للعقدة. إنّه أمثولة عميقة للحالة الوجوديّة التي نعيشها جميعا في هذه الديار.

 

_________________________________________________________

* ترجم المقال من العبرية: جلال حسن

مَصادر

בכטין, מיכאיל, (2007) צורות הזמן והכרונוטופ ברומן: מסה על פואטיקה הסטורית, דביר ואוניברסיטת בן גוריון.

גלוזמן, מיכאל, (תשס”ג) “לזרוק פחית משקה אל תוך ה’ברכה’ של ביאליק: אינטרטקסטואליות וזהות פוסטקולוניאלית ב’ערבסקות’ של אנטון שמאס”, מחקרי ירושלים בספרות עברית י”ט, ע”מ 1 – 21.

ג’מאל, אמל, (2008) “על תלאות הזמן המוגזע”, בתוך: יהודה שנהב ויוסי יונה (עורכים) הגזענות בישראל, מכון ון ליר בירושלים והוצאת הקיבוץ המאוחד, ע”מ348 – 380.

חבר, חנן, (1991) “עברית בעטו של ערבי: שישה פרקים על “ערבסקות” מאת אנטון שמאס”, תיאוריה וביקורת 1, ע”מ 23 – 38.

חבר, חנן, (2013) “השיח החדש בישראל: עשרים וחמש שנה להופעת “ערבסקות”, תיאוריה וביקורת 41, ע”מ 299 – 310.

מרגולין, ברוריה, (תשנ”ו) המיקוד התחבירי בסיפורת העברית ובסיפורת הפלסטינית בנות זמננו: דיון השוואתי והמחשתו בערבסקותלאנטון שמאס, עבודת דוקטוראט, המחלקה ללשון עברית אוניברסיטת בר אילן.

שמאס, אנטון (עורך), (1974) בשני קולות, קובץ דו לשוני מיצירותיהם של משוררים וסופרים ערבים ויהודים, בית הגפן, חיפה.

שמאס, אנטון, “יומן קריאה”, בתוך: אלוף הראבן (עורך), (1981) אחד מכל שישה ישראלים, ון ליר, ירושלים[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” image=”149″ heading=”د. ساره اوساتسكي-لزار” email=”saraho@vanleer.org.il”]د. ساره اوساتسكي-لزار هي زميلة بحث في معهد فان لير، وتعمل في مجال دراسات المجتمع العربي في اسرائيل[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text]أنا أمور كثيرة في جسد واحد

أنا أمّ

أنا ابنة

أنا امرأة

أنا زوجة

أنا أجنبيّة

أنا مسلمة

أنا ألمانيّة

أنا فلسطينيّة

وإضافة إلى كلّ هذه- أنا أيضًا إسرائيليّة

يسألونني: كيف تتعايش لديكِ كلّ هذه الهُويّات معًا؟ وهذا بالضبط ما أريد التحدّث عنه معكم.

هذا ما كتبته أحلام كبها في مستهلّ كتابها الأوّل الذي صدر في ألمانيا في العام 2012.

 

ما هي الأسباب التي دفعتك للكتابة؟

نحن نعيش في عالم شائك؛ كلّ شيء معقّد هنا. بدأت بالكتابة لأنّني أردت تغيير العالم، وأن أبدأ بنفسي أوّلًا. لقد كتبت على الدوام، كتبت حول كل ما حصل لي، والأفكار والمناسبات، لكنني لم أنشر شيئا. بدأت بالكتابة بعدما تيقنت أنني “لست عاديّة”، وأن مسار حياتي متعرّج ومختلف، وأردت أن أعبر عنه، -وربما أن أفهمه- من خلال الكتابة.

 

لماذا تكتبين باللغة الألمانيّة؟

سافر أبي للعمل في ألمانيا في منتصف ستّينيّات القرن الماضي، وعندما حملت أمي بي عادت إلى قريتها “يعبد” وهناك وُلدتُ. بعد حرب العام 1967، عدنا إلى ألمانيا وكان عمري آنذاك عامًا ونصف العام، وهناك كبرت وترعرعت، وهناك وُلِد إخوتي وأخواتي، وما زال جميع أفراد عائلتنا يعيشون في مدينة “شتوتغارت”. في البيت تحدّثنا اللغة الألمانيّة وأنا أعتبرها لغة الأمّ على الرغم من أنّها ليست كذلك. هذه اللغة التي أستطيع التعبير بها عن نفسي على أحسن وجه، وأنا أتحدّث كذلك اللغات العربيّة والإنجليزيّة والعبريّة، لكنّني أتحدّث مع أبنائي باللغة الألمانيّة، ولا أجيد الكتابة بلغة سواها.

 

حدّثيني عن كتاباتك.

أقرأ كثيرًا، لا سيّما باللغة الألمانيّة، وأنا من المولعين بالقراءة. أتواصل مع عوالم أخرى وأتعلّم أمورًا كثيرة. اعتقدت أنّني أستطيع التواصل مع الناس من خلال الأدب. يكفيني أن أنجح في تغيير شخص أو شخصين، خطوة إثر خطوة. في البداية كتبت عن نفسي وعن حياتي، وقمت لاحقًا بإقحام أمور عامّة في كتابتي. كتبت عن الإسلام وكيف أراه، وعن فلسطين والوضع الذي نعيشه. الكتاب هو سيرة ذاتيّة تشمل قضايا سياسيّة أيضًا. فحتّى قصص الأطفال لا يمكن كتابتها دون إقحام السياسة فيها. كتبت عن طفولتي في ألمانيا، وعن حياتي منذ جئت إلى هنا قبل ثلاثين عامًا تقريبًا، حيث ما زال البعض يتعامل معي كأجنبيّة. يقولون هنا إنّ “قيصر” قد تزوّج من أجنبيّة، على الرغم من أنّني جزء من العائلة؛ يقولون لأولادي إنّ أمّهم ألمانيّة. وجدت أنّني غريبة في كلّ مكان، وبحثت عن وطني. عنوان كتابي هو: “لديّ بيت في كلّ مكان، لكنّني ما زلت أفتقد الوطن”. أملك منزلاً في ألمانيا، وآخر في فلسطين، ومنزلاً في إسرائيل، وحيثما ذهبت لا أشعر بالانتماء حتّى النهاية. ثارت حفيظتي في البداية لأنّهم لا يتقبّلونني، لكنّ الأمور تغيّرت. الآن هذا الأمر يضحكني نوعًا ما. هذا صحيح أنّني لست كسائر النساء في هذا المكان؛ فيّ من الغرب ومن الشرق؛ فيّ ألمانيّة وعربيّة. لا أشعر أنّني أعاني من أزمة هُويّة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فهذا الأمر يمنحني قوّة خاصّة، وأكتب حوله وحول الدمج القائم داخلي بين الثقافتين. من خلال الكتابة اكتشفت ذاتي وهُويّتي، واكتشفت أنْ لا حاجة أن أكون مثلكِ. أنا هي أنا، ولا أريد أن أتغيّر، ولا أستطيع فعل ذلك. هذا كتاب حول الحرّيّة، لا حول الحرب والكراهِيَة. هذا الكتاب يتحدّث حول كيف نعيش معًا وكيف نكون أحرارًا.

 

كيف استُقبل الكتاب في ألمانيا؟

استُقبِل كتابي الأوّل بحفاوة بالغة. الكُتّاب الألمان قاموا بالترويج له بمبادرتهم، وتحدّثوا عنه في وسائل الإعلام. الكاتب الشهير جورج تينير كتب أنّه تأثّر عميقا من حقيقة أنّ امرأة عربيّة ومسلمة تكتب حول مواضيع حسّاسة، وعن الوضع في الشرق الأوسط. وأضاف أمراً لطيفًا إذ قال إنّ الكتاب يعاني من مشكلة واحدة هي أنّه لم يكتبه هو بنفسه. وصل هذا الكتاب إلى المرتبة السادسة عشرة في قائمة مبيعات الأدب الألمانيّ في موقع “أمازون” الإلكتروني. صدر الكتاب في العام 2012 ونجح للتوّ، لكنّني احتجت إلى عام كامل للعثور على ناشر. لم أكن على دراية بهذا العالَم، وعلاقاتي هناك كانت معدومة. بحثت عن طريق الإنترنت، ولحسن حظّي عثرت في النهاية على دار نشر وافقت على خوض المخاطرة. منذ إصدار الكتاب سافرت مرّات عديدة إلى ألمانيا، وشاركت في مناسبات قرأت فيها مقتطفات من الكتاب وتحدّثت مع الجمهور. في المرّة الأولى، كانت تلك مدينة شتوتغارت التي كرّمتني كابنة المدينة ونظّمت لي حفلًا عامًّا. اعتقدت أنّ عدد المشاركين لن يتعدّى العشرة إضافة إلى أبناء عائلتي وأصدقائي، لكنّ القاعة غصّت بالجمهور. بعدها قرأت من الكتاب في إحدى الكنائس. وقفت هناك مرتدية الحجاب وقرأت من الكتاب. شعرت بانفعال الجمهور، وقرّرت مواصلة الكتابة.

 

من شرفة بيتها الكائن في عين السهلة تطلّ أحلام على الجبال المحيطة بالقرية. من هنا لا يمكن رؤية جدار الفصل. تحيط بنا سلسلة خلّابة من البلدات والحقول: أمّ الفحم وكتسير، وبرطعة والخضيرة. ومن بعيد نرى لمعان البحر، ترنو إليه أحلام بنظرة جريئة، وتتحدّث عن تجاربها القاسية على الحواجز عندما تذهب لزيارة عائلتها في “يعبد”، القرية القريبة البعيدة. المرأة المتفائلة، الجميلة، الشجاعة التي تحلم بالحرّيّة تريد إعتاقنا جميعنا بواسطة الكتابة.  

 

ما هي مخطّطاتك المستقبليّة؟

أريد أن أكون صوت فلسطين، وأن أفعل شيئًا ما للتخفيف من معاناة أبناء شعبي. أريد تغيير الفكرة السائدة عنهم بأنّهم إرهابيّون ويعشقون القتل. هذا الأمر ليس صحيحًا البتّة. نحن شعب يحبّ الحياة، وكغيرنا نحلم ونفرح. أنتم اليهود عانيتم أيضًا، وما أريد أن أقوله للناس من خلال الكتابة أنّ التفاهم والتعايش بيننا ليس بالأمر المحال. أتحدّث بضع لغات ويمكنني التواصل مع الكثير من الناس. أنا مسلمة، والعالم لديه مشكلة مع الإسلام. أشعر أنّني أستطيع التحدّث باسم الدين الصحيح. الأمور التي يقوم بها بعضهم باسم الإسلام ليست صحيحة. ليس هذا هو الإسلام الحقيقيّ. هذا ليس ما علّمَنا إيّاه نبيّنا محمد. كلّ من يدّعي أنّه يعمل باسم الإسلام يقوم بتشويهه. درست مساقات خاصّة حول ديننا الحنيف كي أكون متضلّعة منه، وكي أسبر أغواره.

أنكبّ الآن على كتابة مؤلَّف يضمّ قصصًا إنسانيّة لا يمكن لها أن تحصل إلّا في هذا المكان، في إسرائيل وفلسطين. أبحث عن الناس وأتحدّث معهم، ومن ثَمّ أكتب قصصهم بطريقتي الخاصّة. كتبت عن امرأة وُلِدت في مخيّم الإبادة “أوشفيتس”، ولم تر ضوء الشمس لعامين كاملين. خبّأها طبيب ألمانيّ مع أهلها. في العام 1948 وصلَت مع عائلتها إلى البلاد، وهي تسكن اليوم في أمّ الفحم، إذ تزوّجت من أحد سكّانها قبل سنين عديدة واعتنقت الإسلام. تتحدّث مثلنا وتبدو امرأةً عربيّة بكلّ ملامحها. كنت في منزلها وروت لي حكايتها بلغة عربية طليقة، وأنا كتبتها بالألمانيّة. قصّة مدهشة ولا يمكن لها أن تحصل في مكان آخر.

كتبت عن المصوّر هيثم خطيب من بلعين الذي أصيب برصاصة في الرأس وما زال يصوّر ويوثّق ما يجري في قريته. أقوم بتجميع القصص الخاصّة، وأنسجها داخل السياسة وأُظهِر الجوانب الإنسانيّة فيها. أريد مواصلة الكتابة عن فلسطين وإسرائيل وعن اليهود والفلسطينيّين. أؤمن بقوّةِ الأدب إيمانًا جمًّا. الأدب باقٍ ما بقي الإنسان، وسيُقرأ حتّى بعد مماتنا. سيقرأه أبناؤنا وأحفادنا. إنّه خالد. عندما نبدأ بالكتابة ونعثر على الطريق، لا يمكننا التوقّف عن ذلك. هذه هي طريقتي للقيام بأمر ما من أجل شعبي وفي سبيل الناس بعامّة. تزخر الصحف بمقالات حول النزاع، وثمّة مئات من كتب التاريخ التي تقوم بتحليلنا، لكن كتبي فيها مَلمَس وصوت إنسانيّان، ويسهل من خلالها فهم ما يحصل للناس داخل هذا الصراع، وكيف يؤثّر على حيواتنا. يستطيع البروفيسور وربّة البيت فهمها. أرغب في ترجمة كتبي إلى اللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة. الجميع هنا يتحدّثون عن “التعايش”، ويصرّحون أنّهم يريدون السلام. لِمَ لا نبدأ إذًا بكتاب؟

هل يرغب اليهود في الاطّلاع عن كثب على الأمور التي تفكر فيها امرأة فلسطينيّة، وهل يريدون معرفة الحقيقة حول حياتنا. اقرؤوا كتبي وسيزيد فهمكم لنا.

 

_______________________________________________________

الترجمة من العبرية: جلال حسن

 

[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” image=”270″ heading=”أحلام كبها”]احلام كبها هي كاتبة فلسطينية، ولدت في قرية يعبد وترعرعت في المانيا لأبوين هاجرا لهناك. تعيش في قرية عين السلهة في وادي عارة، وهي معلمة للغة الانجليزية وأم لثلاثة أولاد.
صدر كتابها الأول في المانيا عن دار النشر Esch Verlag سنة 2012، تحت عنوان ” في كل مكان لي بيت ورغم ذلك بلا وطن” Achlam Kabaha,überall zu Hause… und trotzdem heimatlos
[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text]نصوص متأخّرة

تأخّرت نصوصي فعلا. هي بالكاد تحفظ لائحة المواعيد وبالكاد تجدُ مقعدا شاغرا. في الطريق كنت أقرأ كلّ اللافتات وكلّ الكتب المحروقة وأسجّل انبهاري على بطاقة السفر.

تأخّرت نصوصي التي تقرؤني. ربّما لأنّ أبي مات دون ألم؟ ربّما لأنّ أمّي ما زالت تتألّم (ليس عليه). أو ربّما لأنّني سجّلت مسافة اطمئنان كافية بيني وبين أخي. قد أكون اكتسبتُ بعض الشجاعة في الطريق وقد أكون العكس تماما.

هي قناعة بأنّ هذه النصوص قد لا تضرُّ من حيث لم تنفع. حكمة قديمة اكتسبتها من تذوّق الأعشاب الغريبة في طريق المدرسة. للتسلية فقط.

ما زالت كتفي تصطدم بالحائط وتظنّه صديقا قديما. وما زلت أسجل انبهاري من الكتب المحروقة على صفحة فارغة في هاتفي الجوّال.

 

نصّ غير معقّد

أحاوِلُ افتعال التعقيد في بعض سلوكيّاتي وبعض كتاباتي. أعرف مسبقا أنّني لا أجيده، مُفتعلا حتّى. لا أجيدُ قراءته أيضا. خريف البطريرك قرأته في خريفيْن ولعنت ماركيز عشرين مرّة. الأفلام الّتي لا تسير على خطّ مستقيم أقتلُ فيها البطل قبل النهاية وأغفو. القصيدة المغلّفة بمليون سبب للجنون أتركها، وأحترمها بالضرورة. الرواية المجنونة أجالسها مرغمة، احتراما لذاتي.

أقول في نفسي: كيف لي انّ أحلَّ معادلتيْن بعقلٍ واحد: حياتي المتعثّرة بثلاثة مجاهيل وحياة نصٍّ وقحٍ موارِب؟

حاسّتي السادسة لا أسخّرها لشؤون النصّ ودلالاته. أحتاجها معافاة في حروب أكثر موتا من نصّ ميّت.

أحتاجها وأنا أحاول استحضاري بين النهر والشارع: مَنْ كان على يمين مَنْ؟ ومَنْ كان يُخيفني أكثر عبور النهر أم عبور الشارع؟

لا أبحثُ حاليا عن دلالات الجهات في النصّ.

دلالات الحياة تغريني أكثر.

 

كتابة

وأنا أكتب لا يساندني جيش من النساء وإن صفّقن لي عند النقطة. ورائي امرأة مكسورة وأخرى خائفة وأربع أخريات يتناوبن في دور عمود وهميّ يصل مباشرة إلى الجنة. أنا من حظّي أنّني أعرفُهنّ.

مِنْ حظّهن أنّهن لا يتذكّرْن وجهي.

 

 

حجارة مدبّبة

أحبُّ رائحة النعنع الأخضر ورائحة الصباح في شهر نيسان وأعشق الموسيقى الأنيقة والملابس الراقية والأحاديث الراقيّة وذكاء الرجال بعد الستين وطيبة النساء بعد المائة وصوت البنات بعمر سنتين والبحر المعمّر والسهول المحتفية بامتدادها وأوروبا غير العنصريّة والفرنسيّة حينما أتقنها…وقصائد تافهة عن الرومانسيّة (بالعربيّة( وحين أكتب استخدم حجارة مدبّبة منحوتة من جبل شبه مقدّس. ولا أستعيرُ أيّة فراشة من أعشاشها.

 

أزمة نصّ

أزمة نصّ أعيشها منذ يومين. أبحث عن إطار لتجنيسه. “نصّكِ لا جنس له” يعني لا جنس أدبيّ له. لا هو شعر ولا هو نثر. هكذا ألمح لي بعض الأصدقاء الجادّين. لا أعرفُ: هل أسكبُ النصّ في قالب جاهز؟ أم أرسمُ بيدي قالبا حول النصّ الجاهز؟ أيُّ الزوايا سأقطعها وأيّها سأجعلها دائريّة؟ قد اضطرّ لحذف كلمة أو عبارة دخيلة.

لا أعرف. ماذا سأفعل بالدلالة المحذوفة؟ وإن طال الحدثُ والشخصيّات بلا روحٍ هل أغلق الحدثَ على نهاية تراجيديّة؟ وإذا كنت سأبدأ “بفعلِ” ماضٍ كئيبٍ ثمّ “تنحرفُ” الجملة بفعلِ مضارعٍ متسلّطٍ هل سيكتملُ فعلُ المأساة؟

قد تموتُ الموسيقى ويختلّ الوزنُ في بعض المقاطع. وتكون صاخبة مزعجة في مقطعٍ آخر. لا أملكُ الكثير من المفردات الشعريّة حقيقة. بعضُ عمري قضيته في بيئة صخريّة مفرداتها على شكل حجارة مدبّبة وبعض عمري أقضيه في ترويض هذه الحجارة.

قالوا:يجب أن يكون عندك مشروع مكتمل. مشروع كتابة مكتمل. وأنا منذ طفولتي مشغولة بمشروع واحد متعثّر لا علاقة له بالنصّ أو الكتابة. هو مشروع حياة، الهمّ فيه خارج القالب، الألم غير مجنّس والفرح تناصّ فحسب.

انتهت أزمتي مع النصّ.[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” image=”162″ heading=”شيخة حسين حليوي”]الكاتبة شيخة حسين حليوي من مواليد قرية بدوية تمّ هدمها في عام 1991 قريبة من المستوطنة اليهوديّة كفار حروشت.
درست في مدارس حيفا ثم تزوجت وانتقلت إلى يافا. تعيش فيها منذ العام 1989
درست للقبين الأوّل والثاني في جامعة تل أبيب تخصّص لغة عربيّة.تعمل في التدريس والإرشاد والمناهج التعليميّة. تكتب القصّة والشعر والمقالة. تنشر في صحف ومواقع عربيّة. ترجم لها أكثر من نصّ للعبريّة. قريبا تصدر لها مجموعة نصوص سرديّة عن دار الأهليّة في عمّان. (هذه النصوص مأخوذة من المجموعة).
وتعكف على إصدار مجموعة قصص قصيرة قريبا جدّا[/our_team][/vc_column][/vc_row]