[vc_row full_width=”” parallax=”” parallax_image=””][vc_column width=”1/1″][vc_column_text css_animation=”appear”]جاء اختيار فنّ التشكيل الفلسطينيّ موضوعًا لهذا العدد من “منبر” في فترة تعصف فيها نقاشات حول مكانة الإنسان (المواطن) العربيّ ووجوده في الحيّز العامّ في إسرائيل. هذا العدد الخاصّ بطرح موضوع الإبداع في مجالات الفنّ التشكيليّ، بشتّى اتّجاهاته ومواضيعه وتقنيّاته، لم يأتِ ردًّا على مزاعم البعض في ما يتعلّق بمدى ارتباط المبدع في مجال الفنّ التشكيليّ بمجتمعه (أو عدم ارتباطه)، أو ردًّا على تقوّلات كون الفنّان المبدع جزءًا من شعب له هُويّته القوميّة والحضاريّة المميّزة، بل نحن بصدد استكشاف لمعالم مجهولة في التجربة الخلّاقة التي يخوضها مجموعة من الفنّانين والفنّانات الذين يقومونَ /اللواتي يقُمْنَ بطرح قضايا لها أهمّيّتها في صقل هُويّة فنّيّة مميّزة لكلّ من يؤدّي /تؤدّي اليوم دَورًا في مجال الإبداع الثقافيّ العربيّ في هذه الفترة من الزمن الصعب. هذه الهُويّة الفنّيّة التي نحن بصددها هي التي بدأت تكسر قيود المحلّيّة لتحاول الوصول الى العالميّة، بالرغم من الحصار والتعريفات السياسيّة الضيّقة التي تؤطّر الفنّان العربيّ الذي يعيش في إسرائيل كإسرائيليّ، أو من عرب الـ٤٨، أو فلسطينيّ الداخل… وإلى غير ذلك من التعريفات المهمِّشَة لدور الفنّانين والفنّانات الفلسطينيّين الذين يحملون جنسيّة المواطَنة الإسرائيليّة، وكأنّها تهمة يجب على الفنّان الردّ عليها، أو عليه الدفاع عن نفسه لكونه باقيًا على أرض أجداده.

نرى في هذا العدد عرضًا لأعمال مختلفة تحاول تفكيك المعادلة الصعبة في العمل التشكيليّ الإبداعيّ المعاصر، والتي تدور ما بين مَحاور المادّة والشكل والتقنيّات. إنّها الفكرة التي تستحوذ على هاجس الفنّان المبدع، فيحوّلها إلى عمل، ومن العمل يأتي النقاش الأساس حول النقد الفنّيّ ودَوْره في ممارسة العمل الفنّيّ قلبًا وقالبًا.

في هذا العدد، نجد مجموعة من المقالات التي تتشعّب في مجالات العمل التشكيليّ غير المحدّد في قالب معيّن، فنجد مقالًا موجزًا للدكتور إسماعيل ناشف يحلّل فيه محاولات الفنّان الفلسطينيّ الولوجَ إلى التجريد والوقوف أمام الواقعيّة، مناقشًا ما إذا كان هذان منظورَيْن متناقضَيْن أم وجهين لعملة واحدة.

ثمّ هناك مقال للدكتورة طال بن تسفي حول تجربة الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ في اختراق الحدود المقوقعة له من خلال مشاركته في احتفاليّات “عيد الأعياد”، وحول الدَّوْر الذي يقوم به المكان في صقل هُويّة خاصّة بالفنّان الفلسطينيّ في إسرائيل. “وادي النسناس” على وجه التحديد قد تحوّل إلى حيّز ملائم لعرض هُويّة فنّيّة وقوميّة تؤدّي دورًا في الحيّز الإسرائيليّ العامّ.

أمّا الفنّان أسد عزّي، فإنّه يطرح هاجس الفنّان المبدع حول ارتباط الفنّان التشكيليّ الفلسطينيّ في ما يدور حوله من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة، ويرفض فكرة التعريفات المسطّحة لتاريخ الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، ويعرض علينا فكرة التنوُّع والتجديد في الطرح الذي يمارسه الفنّان الفلسطينيّ بالرغم من القيود والإشكاليّات التي تعارض وجوده وتحدّ من حرّيّته، بل لعلّ هذه القيود وفقدان الوطن القوميّ هي المحفّز للإبداع.

الفنّان والشاعر فريد أبو شقرة يقدّم فكرة السخرية السوداء في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، فنرى عبر ذلك كيفيّة تَبَنّي هذه الفكرة واستعمالها من قِبَل مجموعة من الفنّانين الفلسطينيّين كأسلوب مميّز ينبع من الوعي التامّ للحقيقة المُرّة، ومن فهم الواقع المأساويّ الذي يعيشه الفلسطينيّ المبدع الذي ليس لديه سوى فنّه وإبداعه في معايشة هذا الواقع الأليم.

أمّا الفنّانة منار زعبي، فتصوّر لنا ارتباط عملها بمجال الفنّ الأدائيّ ما بين الجسد واللغة؛ إذ تطرح لنا مكوّنات العمل الأدائيّ الفلسطينيّ الذي ينبع من واقع المبدِعة، فهي لا تفصل في أعمالها الفنّيّة المختلفة -وخاصّة تقديمها لفنّ العرض الأدائيّ- بين الواقع والحلم، أو بين الكائن والمتخيّل.

وهذا الطابع في تفكيك الجسد الذكوريّ ودوره في طرح مقولة جديدة، في مجال العمل التشكيليّ، يقدّمه لنا الناقد والكاتب راجي بطحيش، وذلك من خلال تجربة الفنّان رأفت حطّاب.

ولدينا حِواران مع فنّانتين تمارسان تجربة الإبداع، ولكلّ منهما خاصّيّة وأسلوب مميّز؛ فنرى تجربة الفنّانة حنان أبو حسين  التي تصارع طواحين الهواء في المجال الجندريّ النسويّ، فتؤكّد لنا أنّ الهاجس أو الكابوس الذي يشغلها في أعمالها الفنّيّة هو موضوع الظلم الذي يُرتكب تجاه المرأة، بما في ذلك التعنيف والقتل.

أمّا الفنّانة أنيسة أشقر، فتطرح تجربة الكتابة على الوجه من منظور الخطّاطة التي لم تُذكَر في المصادر العربيّة، مبتغيةً من خلال تجربتها الفريدة الوصول إلى مكانتها في الفنّ العربيّ والعالميّ، من خلال تجربة الكتابة على الوجه وتقديم الفنّ الأدائيّ والمنشآت.

أمّا في مجال نقد الأبحاث التي صدرت حديثًا في مجال فنّ التشكيل الفلسطينيّ، فنجد مقالين في هذا العدد، الأوّل للكاتب مرزوق الحلبي، فيه يقدّم لنا نقدًا لكتاب صدر حديثًا حول الفنّ والنكبة الفلسطينيّة من تأليف الباحثة طال بن تسفي. من خلال هذا النقد يمكننا التعرّف على مجالات البحث الأكاديميّ الإسرائيليّ، وعلى توجّه الباحث من خلال إمكانيّة الربط بين المتحوّلات التاريخيّة والمنتوج الثقافيّ والفنّيّ لشعب لم يعرف، منذ بدايات القرن المنصرم، سوى الهزائم. وهناك أيضًا مقال نقديّ (بقلم حسني الخطيب شحادة) يتناول كتابَ الباحث إسماعيل ناشف حول تجربة الفنّان زهدي قادري في مجال الفنّ التجريديّ، مقارنة بتجربة الفنّانة صوفي حلبي، هذه التجربة التي لها دَوْرها في الربط ما بين الخلفيّة الثقافيّة للفنّان واختياراته لأسلوب فنّيّ يمارسه ليعبّر عمّا يجيش في صدره ليصل بمقولته إلى المتلقّي.

أمّا بصدد الأمكنة غير المتوافرة لعرض الأعمال التشكيليّة الفنّيّة الفلسطينيّة، ودَوْر السياسات المحلّيّة في تهميش الفنّ الفلسطينيّ، من حيث عدم تقديم أيّ دعم أو مساندة لتطوير مشاريع بناء مؤسّسات تُعنى بصالات عرض للفنون التشكيليّة، فنجد في مقابلة مع الفنّان سعيد أبو شقرة الذي يقدّم لنا طرحه لمشروع الغاليري (صالة العرض في أمّ الفحم) كتجربة خاصّة ومميّزة تحاول الوصول بالفنّ التشكيليّ إلى قاعدة واسعة من المجتمع، سواء أكان ذاك بواسطة المعارض العديدة، أم بواسطة ورشات العمل الفنّيّة التي تفرض وجودها في الحيّز العامّ في مدينة أمّ الفحم كظاهرة مميّزة. كذلك يشرح سعيد عن محاولته الدؤوبة، منذ أكثر من عشرين عامًا، لتأسيس وإقامة المتحف العربيّ الفلسطينيّ الأوّل في إسرائيل. من خلال هذه التجربة، يمكننا فهم إشكاليّة عرض الفنون التشكيليّة الفلسطينيّة في إسرائيل، وإشكاليّة رفض فكرة إقامة متحف لشعب يعيش على أرضه (لا يزال!).

أما يوني مندل وغال كرامارسكي، فقد كتبا قراءة نقدية لكتاب  ذاتية الفنان الفلسطيني: ما بين التراث، الثقافة، الحداثة والعولمة. وهو كتاب كتالوجيٌّ ضخم ومشوّق، صدر باللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة، وهو من تحرير الفنان فريد أبو شقرة.

في المعتاد، يُطرح فنُّ التشكيل الفلسطينيّ بشكل عام وفن التشكيل الفلسطيني في إسرائيل بشكل خاص باعتباره تجربةً ذات زوايا متعدّدة وإشكاليّات لا تُحصى تَحصر الإبداعَ الفلسطينيّ في منظور مختصر ومحدود بسبب العامل السياسيّ المحدود، بينما نطرح هنا -من خلال هذا العدد من مجلة منبر موضوع الفنّ والإبداع الفلسطينيّ من منطلق اللا-محدوديّة والخروج من التعريفات الضيّقة، تلك التي لا تُفْلح في الإتيان بالتعريف الأمثل والكامل لِما يجري في مجال الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ.

 

نأمل أن ينال هذا العدد من مجلة منبر اعجابكم ويسرنا تلقي ملاحظاتكم.

د. حسني الخطيب شحادة، محرر العدد

طاقم التحرير: د. ساره أوساتسكي-لزار، د. يوني مندل وحنان سعدي

 


∗ صورة الغلاف: أشرف فواخري، Ben on the Beach 1، طباعة رقمية على قماش، حجم: 50/50، 2012[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

[vc_row full_width=”” parallax=”” parallax_image=””][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]مقارنة مع مجتمعات حديثة أخرى، عربيّة وإسلاميّة وغيرها، تبدو الحالة الفلسطينيّة كاستثناء، لا من حيث نظام الاستعمار الاستيطانيّ القائم فيها فقط، بل من كونها تُجَسِّد البنْية الرأسماليّة/الاستعماريّة بحالتها النموذجيّة. إنّ هذه الازدواجيّة، خاصّيّة مكثّفة ونموذجيّة تجسيد العامّ، تندرج في إطار التحويرات الممكنة في نمط الإنتاج الكولونياليّ بكونه الشكل المحدّد للبنْية الرأسماليّة في عملها التوسّعيّ بالأطراف/الجنوب.[1] إنّ لحظة صياغة منظومة العلاقات التي تنتج الخاصّيّة المكثّفة والنموذجيّة الفلسطينيّتين تنبني من تفاعل طبقات المادّة التاريخيّة المُتراكمة في الفضاء/الإيقاع التماسّيّ بين نظامين اجتماعيّين اقتصاديّين؛ الرأسماليّة في لحظة توسّعها والتجاريّ-الريفيّ في تشكيلته العثمانيّة المتأخّرة والآخذة بالانحسار. فمن جانب، هنالك الطبقة الأساسيّة في المادّة التاريخيّة من التشكيلة العثمانيّة المتأخّرة وهي طرفيّة الفضاء/الإيقاع لِما بات يُعرف لاحقًا فلسطين التاريخيّة في المنظومة العثمانيّة، من حيث البنْية التحتيّة للإنتاج وإعادة الإنتاج وانشباكاتهما المتعدّدة. أمّا من الجانب الآخر، فهنالك الطبقة الأساسيّة في الرأسماليّة الصاعدة منذ أواسط القرن التاسع عشر ومادّتها التاريخيّة الأساسيّة هي مركزيّة الفضاء/الإيقاع التوسّعيّ المُستثمر في فلسطين التاريخيّة، من حيث كونها بوّابة جيو-سياسيّة للفعل الاقتصاديّ الاجتماعيّ في لحظة صعود الفورديّة وارتباطها مع مصادر الطاقة النفطيّة وآسيا عمومًا.[2] إذا نظرنا إلى هذه العمليّات الاقتصاديّة الاجتماعيّة من حيث الأحداث الشموليّة التي أفضت إليها، احتلال فلسطين في نهاية الحرب العالميّة الأولى من قبل بريطانيا، ومن ثَمّ تجهيزها للحدث المفصليّ القادم الحرب العالميّة الثانية، ونكبة 1948، نجد أنّ البنْية الاقتصاديّة الاجتماعيّة تقعّدت على نحوٍ شموليّ عبْر سلسلة من الأحداث العسكريّة. إنّ هذا التقعيد حدّد مَعالِمَ حقل التناقضات الذي يقف في أساس النظام الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين التاريخيّة، معالمه من حيث بنائه الداخليّ كما مَعالِم علاقاته مع البيئة المحيطة به، العربيّة الإسلاميّة كما النظام الرأسماليّ الأورو-أمريكيّ. يحمل حقل التناقضات هذا أشكال التعبير عنه كجزء من العمليّات البانية له، وهو يحملها من حيث منطق عملها والمادّة التاريخيّة الفلسطينيّة، مدوّنة من سلاسل من الأحداث الحسّيّة الإدراكيّة المتراكمة على شكل أنماط من الوعي. والتمييز بين منطق عمل حقل التناقضات ومادّته التاريخيّة هو خطوة تحليليّة تبتغي التوضيح، أمّا من حيث العمليّة المنتجة للشكل التعبيريّ فإنّهما جوانب من ذات الحركة، حقل التناقضات.

זוהדי קאדרי-ילדים וגדר

زهدي قادري، أطفال وجدار، اكريليك وزيت على قماش، 2006-2007، (160/90سم)

خلق، إذًا، التفاعل بين الطرفيّة والمركزيّة حقلَ تناقضاتٍ خاصًّا بفلسطين التاريخيّة يحمل الطرفيّة ويحمل المركزيّة، تَميّزَ ولا يزال بكونه ينتج ويتناتج شكلانيًّا عبْر الحركة المُكثّفة بينهما. للوهلة الأولى، من الممكن الادّعاء أنّ النزعة الطرفيّة، بما هي فضاء إيقاع، تقف في أساس الشكل التعبيريّ التشخيصيّ؛ وذلك أنّ الفضاء الإيقاع الطرفيّ يردّ إلى المادّة التاريخيّة العينيّة المتراكمة والتي تُحَتِّم، بسبب شكل حقل التناقضات الشموليّ، الالتصاقَ بالحدث الفلسطينيّ العينيّ. في مقابل هذا، تقف النزعة المركزيّة، بما هي فضاء إيقاع، في أساس الشكل التعبيريّ التجريديّ؛ وذلك أنّ الفضاء الإيقاع المركزيّ يردّ إلى نموذجيّة المادّة التاريخيّة العينيّة والتي تُحَتِّم، بسبب شكل حقل التناقضات الشموليّ، نوعًا من النموذجيّة التجريديّة كحدث بذاتها. إنّ اللافت للنظر هو أنّ كلّ عمل إبداعيّ يغرف من حقل التناقضات الفلسطينيّ يحمل النزعتين والحركة بينهما كقوى تركيبيّة في فضاء العمل الداخليّ، وذلك بغض النظر عن شكل تلقّي العمل ذاته في محيطه المباشر، وَ/أو ذلك غير المباشر. من الممكن، مبدئيًّا، تتبُّع مسار العلاقة بين النزعتين وحركتهما في كلّ عمل، بأثر رجعيّ، ومن ثَمّ استخلاص شكلها بما هو منطق تركيب للعمل الإبداعيّ الكلّيّ.[3] إنّ العمل الإبداعيّ الكلّيّ يسعى ليشمل مجمل موقعه/لحظته التاريخيّة، وفي السياق الفلسطينيّ نجده يتجسّد في أنّ كلّ تشخيص خاصّ ومكثّف يحمل تجريده النموذجيّ العامّ، وفي ذات اللحظة نجد أنّ التجريد النموذجيّ يحمل في باطنه تشخيصه الخاصّ المكثّف.

ومن هنا، فالفهم الأساسيّ الذي تحمله تجربة الإبداع الفلسطينيّة، في هذا الجانب منها على الأقلّ، هو حول علائقيّة التشخيص والتجريد، وعدم إمكانيّة حضور وَ/أو غياب أيّ منهما دون الآخر. ويتميّز كلّ حقل من حقول الإبداع الفلسطينيّة، من أدب وشعر وفنّ تشكيليّ وموسيقى ومسرح وفكر وسينما، بتفاعل عينيّ بين تاريخ الحقل، كوسيط تعبيريّ له قواعد وقوانين خاصّة به، ومادّة حقل التناقضات التي تطرّقنا إليها أعلاه في طورٍ ما من تاريخ بنْية حركتها الأساسيّة بين الخاّصّية المكثَّفة والنموذجيّة المُجسِّدة للعامّ. ومن الممكن، كخطوة أولى للانطلاق في هذا الفحص، تحديدُ استمراريّة (continuum) للنماذج المثاليّة لتحويرات الإبداع الفلسطينيّ في مقارباته لحلّ إشكاليّة حقل التناقض غير القابلة للحلّ. تبدأ هذه الاستمراريّة من نموذج أسلوب الواقعيّة اللصيقة بالحدث ولكن التي تحتّم درجةً وشكلاً محدّدَيْن من التجريد النموذجيّ لإنتاج ما يبدو على أنّه واقعيّة لصيقة الحدث عبر لغة الوسيط. ومن جانب آخر، تنتهي الاستمراريّة بنموذج الأسلوب التجريديّ البحت الذي يراوح لغة الوسيط ذاتها، ولكن في تجسيده لعمل تجريديّ عينيّ يتحتّم عليه تفعيل الخاصّيّة المُكثّفة لإنتاج هذه التجريديّة البحتة. من الممكن قياس أعمال إبداعيّة شتّى على هذه الاستمراريّة، إلاّ أنّه من الملاحَظ أنّ المبدعين/ات الفلسطينييّن/ات في المجالات المختلفة، وتحديدًا أولئك الذين مارسوا العمل الإبداعيّ “الكلّيّ”، قاموا بتشكيل أعمالهم مستخدمين جلّ الإمكانيّات القائمة على هذه الاستمراريّة. إنّ اللافت للنظر ليس استخدامهم لأنواع مختلفة من هذه النماذج المثاليّة، بل أنّ الاستخدام لدى معظمهم يبدأ من تحوير على أسلوب الواقعيّة التعبيريّة اللصيقة بالحدث، ليتدرّج من ثَمّ، بطرق مختلفة، على الاستمراريّة حتّى استخدام التجريديّة البحتة في مراحل إنتاجهم المتأخّر.

زهدي قادري، بلا عنوان، 2006، زيت على قماش، 90/100 سم

وبالرغم ممّا يبدو من هذه المداخلة من تأطير نمطيّ، تشير الأمثلة العينيّة إلى حضور هذا المسار من التحوّل في الأعمال الإبداعيّة في مجالات الثقافة التعبيريّة المختلفة، ونلاحظ أيضًا أنّ هذا المسار ليس خطّيًّا فقط، وإنّما بنْيته الزمنيّة متعدّدة بحيث قد نرى أنّ الاستمراريّة قائمة في ذات العمل الإبداعيّ بقطبيها النموذجيَّين، وقد نرى خليطًا ما منهما، وقد نرى أعمالاً ذات توجُّه قطبيّ بارز. فإن فحصنا مدوّنة أعمال حسين البرغوثي، نجده في البداية منشغلاً بالحدث وبالبحث عنه فكريًّا وجماليًّا عبر واقعيّة تعبيريّة مميّزة له تحمل نموذجيّة تجريديّة عالية، ليتدرج عبر استخدامه أنواعًا مختلفة من الكتابة الإبداعية إلى التجريد البحت باستحضاره إشكاليّات إنسانيّة عامّة من خلال مواقع طفولته ذات الخاصّيّة المكثّفة.[4] ويبدو غسّان كنفاني في محاولاته الدؤوبة للبحث عن الشكل الأدبيّ الجماليّ للمأساة كالحالة الأدبيّة بامتياز لهذه الحركة بين الخاصّيّة المكثّفة ونموذجيّة التجسيد للعامّ.[5] أمّا في الفنّ التشكيليّ فنرى، مثلاً، سري خوري يبدأ من التشكيل التشخيصيّ ليتدرّج في اتّجاه الفنّ التجريديّ. واللافت للنظر لدى هذا الفنّان هو تجلّي وعيه الحادّ بهذه الحركة بطريقة تركيبه لأعماله المتأخّرة.[6] تبدو مدوّنة إبراهيم نوباني حالة قُطبيّة بامتياز، حيث قام، ولا يزال لغاية اليوم، منذ انطلاق إنتاجه التشكيليّ باستخدام التجريد البحت، وأسَّسَ للغة بصريّة تجريديّة تطرح حلاًّ جماليًّا عبْر تجسيد نموذجيّة العامّ في حقل التناقضات الفلسطينيّ غير القابلة للحلّ بخاصّيّة مكثّفة في كلّ عمل له، كما في مدوّنته عمومًا، بحيث يبدو وكأنّه يُصادر خُلاصة الموديرنيزم، وما يوازيه مادّيًّا ودلاليًّا من فضاء إيقاع المركزيّة الرأسماليّة، ليمتلكها من جديد وليقوّلها فلسطينيًّا، وبهذا فهو يعلن أنّه الحداثيّ الأخير. وممّا يعزّز هذا التفسير أنّ الحداثيّ الأخير شكّل ركنًا مفصليًّا في عقدَيِ الثمانينيّات والتسعينيّات، تلك المرحلة التي شهدت عمليّات انتقاليّة حادّة داخل المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ وإعادة تموضعه الجدليّ في بنْية حركة حقل التناقضات في النظام الاستعماريّ في فلسطين. إنّ الإمكانيّة الجماليّة التي يطرحها الحداثيّ الأخير، امتلاك وسائل الإنتاج الفنّيّة الحداثيّة، كانت تراوح في العديد من الأعمال التشكيليّة الأخرى إلى جانب إمكانيّات أخرى، إلاّ أنّه قام بطرحها بطريقة تستنفد حمولتها الخلاّقة عبْر إتقان مُفرِط لفعل الامتلاك المتمثّل في خلق الخلق التجريديّ من جديد.[7]

من هنا نرى إنّ استخلاص طبقات الإرث البصريّ الفنّيّ الفلسطينيّ الذي نحا باتجاه القطب التجريديّ البحت يحتّم علينا الرجوع الى محور التاريخ السياسيّ والاجتماعي، بحيث نجد إنّ هذه الطبقات تقف تزامنيًّا كبنْية تحتيّة تراكميّة للفعل التشكيليّ التجريديّ الفلسطينيّ. ومن هذا المنطلق يمكننا بناء محور يربط بين الفنّانين/ات الفلسطينيّين/ات وأعمالهم التي لا يبدو أنها ذات علاقة زمنيّة-مكانيّة مباشرة، بل هي متناثرة على محاور فضاء إيقاع الحدث الفلسطينيّ الحديث منذ العقد الثاني من القرن العشرين حتّى يومنا هذا؛ هذا المحور يحاول الربط بين الأجزاء المختلفة من حقل الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ بحسب معيار التجريد البحت، وذلك بغضّ النظر عن الزمان والمكان العينيَّيْن لتنفيذ عمليّة الإنتاج، لينشئ بينها من ثَمّ شكلاً من العلاقات هو أنموذج التجريد البحت الذي يمثّل إستراتيجيّة تعبيريّة مفصليّة في حقل التناقضات الفلسطينيّ. ضمن هذه المدوّنة نجد مثلا أعمال الفنّانين/ات: صوفي حلبي؛ جبرا إبراهيم جبرا؛ بول غراغوسيان؛ سريّ خوري؛ سامية حلبي؛ كمال بُلاّطة؛ إبراهيم نوباني، زهدي قادري وغيرهم.

 


 

[1] حول العلاقة بين المركز والهامش في النظام العالميّ، انظر:

أمين، سمير، 1980. التطوّر اللا متكافئ: دراسة في التشكيلات الاجتماعيّة للرأسماليّة المحيطيّة. بيروت: دار الطليعة.

[2] للتوسّع في هذا الجانب، انظر -مثلاً-:

Asad, T., 1975. Anthropological Texts and Ideological Problems: An analysis of Cohen on Arab villages in Israel, Economy and Society, 4(3), 251-282.

[3] للتوسّع حول مفهوم العمل الإبداعيّ الكلّيّ، انظر:

Roberts, D., 2011. The Total Work of Art in European Modernism. N.Y.: Cornell University Press.

Finger, A., and Follett, D., (eds) 2010. The Aesthetics of Total Artwork: On borders and fragments. Baltimore: The John Hopkins University Press.

[4] للتوسّع حول أعمال حسين البرغوثي الشعريّة، انظر: البرغوثي، حسين، 2008. الآثار الشعريّة. رام الله: بيت الشعر.

[5] انظر: كنفاني، غسّان، 1998.الأعمال الكاملة، 4 أجزاء. بيروت: مؤسّسة غسّان كنفاني الثقافيّة ودار الطليعة.

[6] انظر: بُلاّطة، كمال، 2000. استحضار المكان: دراسة في الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ المعاصر. القاهرة: المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم، ص 250-253.

[7] انظر: ليفني، إفرات، 2004. إبراهيم النوباني: الحيّز الوسطيّ. تل أبيب: متحف تل أبيب للفنون.[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=”د. اسماعيل ناشف” image=”651″]
الدكتور اسماعيل ناشف هو باحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها في جامعة بن غوريون في النقب. درّس في عدة جامعات فلسطينية وأجنبية. نشر العديد من الكتب العلمية والأدبية بالإضافة لأبحاث ومقالات في مجالات الأدب والفن والفلسفة وعلم الاجتماع والإنسانيات.

[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row full_width=”” parallax=”” parallax_image=””][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]

مهرجان “عيد الأعياد”، الذي يقام في شهر كانون الأوّل من كلّ عام في حيّ وادي النسناس في حيفا، بدأ مشواره في شهر كانون الأوّل من العام 1993، ويومها احتفلت الديانات الثلاث في الوقت ذاته تقريبًا بعيد الحانوكا وعيد الميلاد وحلول شهر رمضان. هذا المهرجان الذي بادر إليه بيت الكرمة- المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ، بالتعاون مع بلدية حيفا، “يهدف إلى تشجيع وتعزيز التسامح والتقبّل والاحترام المتبادل من خلال الفنّ والثقافة”.[1] الحدث المركزيّ في هذا المهرجان هو معرض فنّيّ يعرض فيه فنّانون مختلف أعمالهم ولوحاتهم. المعرض الأوّل لمهرجان “عيد الأعياد” امتدّ من فضاءات العرض التابعة لبيت الكرمة حتّى الأدراج الحجريّة التي تُفضي إلى الوادي، وعلى امتداد الشوارع المحيطة بالحيّ. في العام 1996، عُيّنت حنّه كوفلير أمينة للمعرض، وواصلت عملها هذا لعقد من الزمن، حتّى العام 2006 بالتحديد؛ يرافق المعرضَ في كلّ عام إصدارُ كتالوج يحتوي على نصوص تأويليّة شاملة باللغات العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة .[2]  هذا التقليد يتواصل حتّى يومنا هذا، حيث تمكّن على امتداد 22 عامًا من خلق فضاء متحفيّ بحضورٍ لافت للغاية.

برز حضور الفنّانين العرب بدءًا من المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته، حيث عُرضت حينذاك أعمال لعبد عابدي، وإبراهيم نوباني، وحسن خاطر، ورنا بشارة، وجمال حسن، وجمانة إميل عبود، وأسد عزّي، وعامر درباس، وأحمد كنعان.[3] في سنوات التسعين، لم يحصل أنْ عُرِض هذا الكمّ الكبير من أعمال الفنّانين العرب خرّيجي مدارس الفنون في إسرائيل، ملحقة بنصوص باللغة العربيّة، في فضاء يوصف على نحو طبيعيّ بأنّه فضاء مجتمعيّ عربيّ.

في كتالوج المعرض الأوّل الذي قامت كوفلير على أمانته “لُحمة وسَدى” (1996) جاءت افتتاحيّتها على النحو التالي:

“الاختلاط الفنّيّ في مشروع وادي النسناس ناجم عن الطابع الرئيسيّ للمكان، على ما فيه من نسيج بشريّ ومركّبات مدنيّة، وكذلك عن المسألة الاجتماعيّة التي يهتمّ فيها “بيت الكرمة” الملتصق به كمركز ثقافيّ يهوديّ – عربيّ. لقاء الفنّ، المؤلّف من أسس عديدة مادّيّة وروحانيّة، يمكّن الفنّانين المشتركين فيه من نصب إبداعاتهم في إطار مفتوح يجسّد بالملموس إزالة السدود بين ما يُعتبر فنًّا نخبويًّا وبين الفنّ الشعبيّ، بين المقولة الثقافيّة وبين التعبير الفنّيّ الإثنيّ، بين الموادّ الأصليّة وبين الموادّ “الفقيرة”، بين المركز والأطراف، وبين المفاهيم “الراهنة” والمفاهيم التقليديّة، بغية خلق نقاط التقاء تتواصل في عين المُشاهد مع مخزون متنوّع الألوان من غير اللُّحمة فيه لا يكون للسَّدى موطئ قدم”.[4]

الوادي بذاته كان نقطة ارتكاز المعرض، وبعض الأعمال كانت site specific، أي إنّها أُنتجت خصّيصًا للمعرض، وجرى تصميمها كي توضع في الوادي. هكذا على سبيل المثال كتبت كوفلير حول الفنّانة رنا بشارة، خرّيجة دائرة الفنون في جامعة حيفا والتي تسكن في قرية ترشيحا:

“أثمرت هذه المرّة نحتًا بيئيًّا خُطّط خصّيصًا لبؤرة عينيّة في الوادي. “صرخة الوادي” لرنا هي مقولة اجتماعيّة سياسيّة تتطرّق إلى أحياء مثل وادي النسناس أو وادي الصليب جرى فيها هدم وإغلاق بيوت على مدار السنين، كما في أحياء أخرى في حيفا جرت فيها في الماضي تنمية وتطوير المجد الهندسيّ المعماريّ العربيّ. احتجاج رنا ينفجر من حائط منفرد وبقايا منزل عتيق تعرّض للهدم، ويمكن أن نشخّص فيه طبقات اللون المقشورة. الجدار كلّه مغطّى بمادّة جاهزة عضويّة – أوراق صبّار لحميّة كما لو أنّها “خيطت” عليه كزينة أو سياج حيّ حسبما هو متّبَع في القرى العربيّة. وبين أوراق الصبّار (التي أصبحت رمزًا للقرية العربيّة) أدخلت شظايا البلاط المرسومة التي بقيت في المنطقة، شهادة غاضبة على بيت كان هناك مرّة وعلى جلبة الحياة التي سكنته”.[5]

يعرض نصّ كوفلير الأغراض التي تتكوّن منها الأيقونوغرافيا الفلسطينيّة: شواهد قبور، وبيوت مدمّرة، وبلاطات مزركشة، وشجرة صبّار، وأشجار زيتون. الفنّان الحيفاويّ عبد عابدي الذي عرض أعمالًا له في معرض العام 1996 ربط في مقابلة أجريت معه بين “نقطة تشبّث” الوادي وواقع الحال الفلسطينيّ:

كعضو في لجنة التوجيه لإعادة ترميم الوادي التابعة لوزارة البناء والإسكان، أنا متداخل تمامًا بالمحيط، وأخاف من اليوم الذي ستداهم فيه البولدوزرات المكان الذي كبرت وترعرعت فيه، وتبقيه عينًا بعد أثر. هذا المكان يجسّد واقعًا معيشيًّا يعبّر عنا. للأسف الشديد ثمّة أمثلة كثيرة لأحياء -وقرى كذلك- جرى تدميرها بالكامل لأسباب سياسيّة بعد العام 1948، وتدمير غير مبرّر في حيفا حتّى في العَقد الأخير، وأقصد التدمير الحاصل في حيّ وادي الصليب.[6]

ضمّ المعرض المذكور عملًا فنّيًّا آخر تناول البيت الفلسطينيّ وهو عمل تنصيبيّ للفنّانة جُمانة إميل عبّود والذي ضمّ صورًا وتدوينات وأغراض مختلفة. ووصفت كوفلير هذا العمل التنصيبيّ على النحو التالي: جمانة، التي عادت إلى مدينة طفولتها شفاعمرو بعد إقامة طويلة في كندا، تكتشف مجدّدًا سحر النسويّة في البيت الشرقيّ وتتواصل معها بواسطة موتيفات تزيينيّة ومقاطع ذكريات. إنّها تستعمل مناظر الطفولة، وقطعًا زخرفيّة ذات طابع محلّيّ […]”.[7]

البيت في شفاعمرو يعرّف في هذا النصّ كبيت شرقيّ ذي طابع محلّيّ. بعد ذلك بعامين، شكّلت هذه الاستعارات والبيت في شفاعمرو محورَ معرض قمتُ على أمانته في غاليري هاينريخ بيل. في نصّ المعرض كتبتُ أنّ جمانة إميل عبود تتعامل مع هذه الصور والاستعارات كوطن ضائع، وهي تمكّننا من التعرّف عن كثب على الثقافة الفلسطينيّة. [8]

في تسعينيّات القرن العشرين طرأ تغيير على الخطاب الذي يتناول أعمال الفنّانين العرب، وانصبّ في الأساس على التحوّل نحو خطاب تأويليّ فلسطينيّ. أحد الأمثلة البارزة على ذلك يظهر في معرض آخر لـِ “عيد الأعياد”، براءة 2000 الذي قامت على أمانته كوفلير في العام 1999، وعرض فيه أحمد كنعان عمله الفنّيّ “الحاضر الغائب” (تقنيّات مختلطة، 1988). وقد وصفت الصحفيّة هيلا شكولنيك العمل على النحو التالي:

بيت أحمد كنعان هو قفص على حافة الهاوية ربطت فيه مفاتيح كبيرة، وفي ذلك تتحقّق ثنائيّة: السجن من ناحية، وإمكانية دخول كلّ من يرغب في ذلك من ناحية أخرى. هذا البيت، على الرغم من حطام البلاط الشرقيّ المزركش، هو بيت لا يتبع لأحد، بيت مهجور، وبيت جرى اقتحامه، وسكّانه هجروه أو هُجّروا منه، ولا أحد يريده. [9]

 

  ألحق كنعان بعمله هذا مقطوعة من قصيدة لمحمود درويش تلخّص التعامل القيميّ مع البيت:

…هُنا فِي المساءِ الأخيرْ

نَتَمَلّى الْجبالَ المُحيطَةَ بِالْغَيْم: فتحٌ … وَفَتْحٌ مُضادّ

وَزَمانٌ قَديمٌ يُسَلِّمُ هذا الزّمانَ الْجَديدَ مَفاتيح أَبْوابِنا

فادْخلوا، أيَّها الْفاتِحونَ، مَنازِلَنا واشْرَبوا خَمْرَنا […]

شايُنا أَخَضْر ساخِنٌ فاشْرَبوهُ، وَفُسْتُقنُا طازَجٌ فَكُلوه

والأسرَّةُ خضراءُ من خَشَب الأرْزِ، فَاسْتَسْلِمُوا للنُّعاسْ
بَعْدَ هذا الْحِصارِ الطّويلِ، ونَامُوا على ريشِ أَحْلامِنا   […].[10]

 

الاقتباس من محمود درويش يضع “نقطة ارتكاز” العمل في وادي النسناس، لكن ليس بالضرورة كحيّز يهوديّ- عربيّ، بل كحيّز فلسطينيّ في الأساس. موضوع الحاضرين الغائبين يقع في صُلب الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ، ويدرجه الفنّان موضوعةً رئيسيّة في عمله. نقطة ارتكاز هذا العمل تمدّ بجذورها نحو محمود درويش الشاعر الفلسطينيّ المعاصر الأهمّ، وتضع النصّ في الحيّز العامّ كنوع من المناكفة والتحدّي.  

انطلاقة مهرجان “عيد الأعياد” في بيت الكرمة قبل 22 عامًا شكّلت بداية ظهور معارض وفضاءات عرض تفتح الباب لفضاءات خطاب جديدة، تلك التي تمكّن من عرض فنّ فلسطينيّ معاصر يجري إنتاجه في إسرائيل. الفنّانون الذين عرضوا في معارض “عيد الأعياد” تحوّلوا على مرّ السنين إلى أبرز سفراء الفنّ الفلسطينيّ، وحظيت أعمالهم في العَقد الأخير باهتمام منقطع النظير في حقل الفنون الدوليّ. 

هؤلاء الفنّانون -خرّيجو مدارس الفنّ في إسرائيل- ينشطون داخل منظومة متعدّدة الثقافات، ويشكّلون فيها جزءًا من ثقافة أقلّيّة قوميّة؛ ويرتبطون أيضًا بروابط متعدّدة الأوجه بالثقافة القوميّة الفلسطينيّة، وكذلك بالحقل الفنّيّ في إسرائيل. تتوجّه أعمالهم لحقل الفنّ الإسرائيليّ، وكذلك لحقل الفنّ الفلسطينيّ بجمهورَيْهما، وللجهات المؤسّساتيّة فيهما، كأمناء المعارض، والنقّاد الفنّيّين، وهواة الجمع، والمتاحف، والمعارض، ومدارس الفنّ.  

לכידה

احمد كنعان، درب القهوة، 2005. تصوير: روني كورين

الحقوق محفوظة لبيت الكرمة المركز الثقافي العربي اليهودي، حيفا

في المقابلة التي أجرتها دانا غيلرمان مع حنّه كوفلير في العام 2004، عشيّة إحياء مرور 11 عامًا على إقامة المعرض، أشارت غيليرمان أنّ كوفلير لا ترى نفسَها أمينةَ المعرض وكمن تقاس بجودة المعروضات فيه وبالنظريّات التي ترافقه. وقالت: “الاسم الأدقّ لِما أقوم به هو الجمع، وفي النهاية أقوم بـِ “تطريز” الأمور معًا كي أنجح في فعل هذا الأمر داخل المحيط السكنيّ المأهول. هذا المعرض متعدّد المشاركين ومتعدّد الأجيال ومتعدّد الأوجه، ويتراوح بين الفولكلور وَ “الكيتش” والفنّ الاصطلاحيّ، مع كلّ ما بين هذا وذاك”.[11]

وأضافت كوفلير على ضوء نجاح المهرجان أنّ “هذا الحدث يشكّل فرصة  للفنّانين الذين يرغبون في التعامل مع النحت في المحيط […]، لكن تستهويهم كذلك فكرة التعايش التي تقف من وراء المهرجان”. لكن بحسب أقوال غيلرمان، كوفلير -كآخرين غيرها- تشكّك في مصطلح “التعايش” الذي يرافق المهرجان منذ تأسيسه. “دعيك من التعايش، أنا لا أحبّ هذا المصطلح، ولو تسنّى لي لاستبدلت عنوان “التعايش” بـمصطلح “العيشَة”، نعم “العيشَة”، هكذا ببساطة”.

العيشة نفسها، بيئة السكن نفسها، هي إذًا نقطة الارتكاز الحقيقيّة واليوميّة التي تدور حولها الأعمال الفنّيّة. بهذا المفهوم، إنّ الخطاب النقديّ الذي تقدّمه كوفلير هو خطاب يمكّن من فرض الحضور؛ فعل ينضوي تحت عمل أمانة المعرض ويوفّر منصّة أو قاعدة أو فضاء عرض تتعايش فيها أنواع مختلفة من الخطاب- الواحد إلى جوار الآخر.

وتدّعي أريئيلا أزولاي في كتابها التدريب للفنّ[12] أنّ إبراز الحضور في الحيّز العامّ ما هو إلّا ممارسة نقديّة، وتشير أنّ إبراز الحضور يرفض توفير مسبّب الوجود للحقل الفنّيّ، أي للعمل الفنّيّ، وأنّ الحديث يدور عن ممارسة مختلفة لوضع علامة هُويّة ما في الحيّز العامّ، ينصبّ غالبيّة اهتمامها على “صنع ثقوب في الرواية المهيمنة”.[13] هذا التوصيف يتلاءم مع الحضور، ومع العمل الفنّيّ، للفنّانين العرب الذين يعملون في إطار معرض “عيد الأعياد” في السنوات الاثنتين والعشرين الأخيرة.

وادي النسناس (كحيّ عربي)، والأعمال الفنّيّة التي جرى توصيفها هنا، ومنظومات التأويل المرافقة لهما، كلّها تُمكّن سياسة الهُويّات من التحقّق والعمل في فضاءات خطاب نقديّة وسياسيّة تتحدّى المؤسّسة الفنّيّة القائمة.

الحضور الفلسطينيّ في الوادي استمدّ زخْمًا جِدّيًّا عندما أطلقت إدارة بيت الكرمة مشروع “طريق القصيدة”- وهو عبارة عن مسارات تتقصّى إثر قصائد في شوارع وادي النسناس، وعَرضت فيها قصائد لحنّا أبو حنّا، وسامي ميخائيل، وإميل حبيبي وشعراء آخرين. وكتب في كتالوغ المعرض من العام 2005 حول إميل حبيبي:

ملأ إميل حبيبي العديد من المواقع في حياته العريضة. فقد كان أديبًا ومسرحيًّا وكاتب مقالة وقائدًا سياسيًّا وابنًا بارًّا لشعبه العربيّ الفلسطينيّ. كما كان عاشقًا لمدينة حيفا -مسقط رأسه. وإبداعات حبيبي في مختلف المضامير، التي يمكن من خلالها الإطلال على الكينونة الفلسطينيّة عمومًا وداخل إسرائيل خصوصًا، حافلة بتوصيفات للمكان الذي عاش فيه وعايش تبدّلاته في منعطفات المصير الإنسانيّ. ومن الطبيعيّ أن تكون متّصلة اتّصالاً وثيقًا بمدينة حيفا، حيث اختار أن يرقد فيها رقدته الأبديّة داعيًا، في وصيّته الغنيّة بالدلالات، إلى نقش عبارة “باقٍ في حيفا” على شاهد قبره عند سفوح الكرمل وعلى مقربةٍ من زرقة البحر”.[14]

وضع الأعمال الشعريّة داخل فضاء أدبيّ يزخر باللغة العربيّة (إلى جوار الترجمة إلى العبريّة) يوسّع منظومة تأويلها، ويُموضعها كجزء من ثقافة فلسطينيّة رحبة وثريّة. بهذا المفهوم، فإنّ الثقافة البصريّة الناشئة في المعارض داخل وادي النسناس، المرّة تلو الأخرى، وعرضها في الحيّز العامّ، هي تعبير عن سرديّة موازية، ومنافِسة، وبديلة للمنطق القوميّ، لا بل إنّها تتآمر عليه أحيانًا. على الرغم من أنّ الفنّ الإسرائيليّ المعاصر بغالبيّته لا يزال ينشط في الإطار الحصريّ للخطاب العبريّ والمنطق القوميّ، فإنّ هذا النشاط (الـ “عيشَة” -على حدّ تعبير كوبلر) يولّد إمكانيّة العمل على نحو نقديّ داخل هذه الأطر وفي مواجهتها.

تسييس الحضور الفنّيّ بما يحمل من روايات تاريخيّة، يمكّن من الاعتراف بهُويّة الفنّانين، لا بل إنّه يجعل من الصعب محو هذا الحضور في إطار منظومات الخطاب والتأويل الفنّيّة الخاصّة بتلك الفترة. خلقت معارض “عيد الأعياد” حضورًا متواصلًا لثقافة عربيّة- فلسطينيّة في الحيّز العامّ، وهذا الحضور يشكّل نقطة ارتكاز تعني المطالبة بالحضور الدائم للمجتمعيّ- الاجتماعيّ- الثقافيّ داخل حيّز  قوميّ مهيمن، وهي مطالبة تُطرح علنًا وفي وضح النهار، لا كموقف تآمريّ يعمل خفيّة، ولا كموقف هامشيّ للنسيان والتغييب.

 


 

 * ترجم المقال من العبرية جلال حسن

[1] من موقع ” عيد الأعياد” الإلكترونيّ http://haifahag.com/Pages.aspx?pageID=2.

[2] من بين الكتالوجات التي حرّرتها حنّه كوبلير وأصدرها بيت الكرمة – المركز الثقافيّ العربيّ اليهوديّ نذكر: حيّز معيشيّ- معرض الفنّانين العرب القطريّ (2000)؛ أولاد، عيد الأعياد (2001)؛ طبيعة صامتة، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2002)؛ الضوء والظلّ، شهر الثقافة والكتاب العربيّ (2004)؛ ساحة لعب: عيد الأعياد ( 2005).

[3] عرض هؤلاء أعمالهم إلى جانب الفنّانين: عوفرا تشيمبليستا، ران هَراري، أريئيلا فيرتهايمر، مارتين أغمون، شولي نَحشون، دورون إيليا، تمار شحوري، إفراهام إيلات، جون ريردون، ناديا لايبمان، رونين لايبمان، رونين يسرالسكي، كوبي هارئيل، غدعون غيخطمان، جاك جانو، إيلي ران، نوريت تساديربويم، شموئيل بيئير، بلو- سيميون فاينيرو، إلداد رفائيلي، وميكي كارتسمان.

[4] حنّه كوبلير، 1999. لُحمة وسَدى، حيفا: بيت هَجيفن. ملاحظة المترجم: أخذت الترجمة العربيّة لأقوال كوبلير عن موقع عيد الأعياد: http://mwwart.com/ExibitionArticles.aspx?ExhibitionCssClassNum=3&YearNumber=1996&ExhibitionId=1 (الدخول الأخير للموقع في تاريخ 3.2.2016).

[5]  المصدر السابق.

[6] أورا بيرفمان، 1996. “تابنيت نوف مولادتام” (“قالب طبيعة وطنهم”)، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 13.12.1996. للتوسّع حول أعمال عبد عابدي، راجِعوا: طال بن تسفي، 2010. أعمال عبد عابدي، 50 عامًا من الإبداع، إصدار صالة العرض أمّ الفحم.

[7] راجِعوا الملاحظة 4 أعلاه.

[8] للاستزادة حول معرض جمانة إميل عبود، راجِعوا في الكتالوغ: طال بن تسفي، 2000، شرق أوسط جديد- 11 معرضًا منفردًا في غاليري هيانريخ بيل، تل أبيب يافا، جمعيّة هَغار.

[9] هيلا شكولنيك، “أميرة في الوادي”، 1999، أسبوعيّة كولبو الحيفاويّة، 8.1.1999.

[10] محمود درويش، “في المساء الأخير على هذه الأرض”، أحد عشر كوكبًا، دار الجديد، 1993، ط.3، ص 9.

[11] دينا غاليرمان، 2004. “حتّى البؤس يبدو مغريًا”، هآرتس، 9.12.2004، ص د3.

[12] أريئيلا أزولاي، 1999، تدريب للفنّ: نقد الاقتصاد الموسيقيّ، تل أبيب: هَكيبوتس هَميؤوحاد، ص 163.

[13] المصدر السابق، ص 164.

[14] سهام داوود، 2005، ساحة لعب: عيد الأعياد (تحرير: حنّه كوبلير)، حيفا: بيت هَغيفين.[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=”د. طال بن تسفي” image=”648″]
د. طال بن تسفي هي محاضرة في بتسالئيل، أكاديمية الفنون والتصميم، القدس. أمينة معارض مستقلة وباحثة في الثقافة

[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column][vc_column_text]

 

[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row][vc_row full_width=”” parallax=”” parallax_image=””][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]يمكننا القول بأنّ ما يُسمّى الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ هو عبارة عن عشوائيات فردية وجماعية ارتقت بفعل النكبة وبعدها إلى خصوصية فريدة وخلّاقة لم نرها في تاريخ الحضارة الإنسانية.

إنها حالة فلسطينية بامتياز (يمكن أن نضيف إليها قسط من حالة عربية وبعض من العالم الثالث والنامي)، حالة تقطع أوصال الوطن والمجتمع وتشرد أبنائه في أقاصي الأرض ومغاربها، بحيث اجتز الإنسان الفلسطيني من جذوره وأفاق بين ليلة وضحاها سجين غربته (حتى من تبقى منه في دياره ومن كان قد هُجِّر أو هاجر خوفا من الموت)، شعب سلب منه بيته وأرضه وأقصي غالبيته عن مكانه وناسه، وأصبح الفلسطيني أينما تواجد يفتقد وطن كمكان يحتويه يحميه ويمنحه الاستقرار والأمان لتكوين حياة رتيبة.

قراءة هذا الواقع دون إسراف تمنحنا مواكبة تطور إحدى ظواهر الحضارة البشرية الفذّة على الإطلاق دون حاجة أن نبتدع بشكل اعتباطي بدايات غير ممنهجة منذ القرن التاسع عشر، أو البحث عن رسّام هنا وآخر هناك كانوا قد أحبوا الفنّ وأجادوه ودرّسوه لبعض المريدين، أو أنّهم شكّلوا أيقونات في كنائس،(أمثال نقولا الصايغ 1930 وجريس جوهرية 1910) أو رسموا بورتريتهات لشخصيات تاريخيّة، أمثال زلفة السعدي (1905-1988)، أو مناظر طبيعيّة وطبيعة صامتة بأساليب المدارس الأوروبيّة التي كانت شائعة آنذاك، أمثال مبارك سعد وداود زلاطيمو وصوفي حلبي وغيرهم.

هذا لا يعني أنّه لم يكن هناك حِراك فنّيّ في فلسطين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولكن باعتقادي، لم يشكّل هذا الحراك مرجعيّة فلسفيّة أو عقائديّة معلومة وملحوظة لما تلاه من تطور في التقنيات والأساليب والمضامين الفنيّة لخلق حركة رائدة كتلك التي أريد أن أسلّط عليها الضوء في هذا المقال (تماما مثلما لم يشكّل الحراك الفنّيّ في أميركا حتى بداية القرن العشرين أرضيّة تشكيليّة حقيقيّة وصلبة لبداية ما يعرف اليوم بالفنّ الأمريكي المعاصر، والمتمثّل بالحركة التعبيريّة التجريديّة أي “مدرسة نيو-يورك”. كما أنّ ثمّة فروق هائلة بين كل ما كان في فلسطين حلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وما تأتّى لها بعد نكبة عام 1948. من شعب كان يعيش على تراب أرضه، بين أهله وصحبته (حتى وان كان هذا تحت نير الاستعمار البريطانيّ) بحيث يمارس ما منحه إيّاه المستعمر من مساحات متاحة للتعبير والتسليّة، ليتحول في نهاية المطاف إلى شعب يعيش في خيام الغربة، مهدّدًا بالموت جوعًا وعطشًا، أو بالطرد والقتل. شعوب كثيرة بالإمكان مقارنة ما حصل لها مثل الشعب الفلسطينيّ، بحيث هلكت بالتماهي وفقدان الهوية (مثل الهنود في أميركا وسكان استراليا الأصليّين وشعوب أفريقيا بكافة أعراقها وجغرافيتها). أمّا هذا الشعب، أعني الشعب الفلسطينيّ، فقد ارتأى أن يسجّل مأساته بالصور الفوتوغرافية أثناء الهجيج والخوف، ويقيم المشافي والمدارس في المخيّمات حيثما وريثما أقيمت٬ شعب رسم آلامه وهمومه بالدّم ورفع صوته وأشهر قضيته على الملأ أمثال خليل رعد (1891-1948)، جوليانا ساروفيم (1934)، إسماعيل شمّوط (1930-2006)، إبراهيم غنّام (1931-1984)، مصطفى الحلاج (1938)، وناجي العلي (1937-1987).

كما وتشكّلت الهويّة الفنيّة من خلال أعمال إبداعية عديدة في مجالات مختلفة: كالمسرح، والرواية، والقصيدة، والأغنية، واللوحة والجدارية والتمثال. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد مسرح الحكواتي، وأغاني فرقة العاشقين، وموسيقى فرقة صابرين، وسرديات اميل حبيبي، وقصص غسان كنفاني، وشعر راشد حسين وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم الكثير.

 

לכידה

أسد عزّي، العم جبر علي عزي، زيت على رزنامة 41-55 سم 2016

شعب شكّل له تواجدًا ايدو- ثقافي بالكلمات والألوان والرقصات، فعبّر عن فظاعة المأساة وكبر الفاجعة، ولكنّه أعلن أيضا عن إصراره على مقاومة الغبن، واستعادة الإرادة، وتوظيف مقدراته ومواهبه للوقوف باستقامة المجاهد، كمن له الحقّ باسترجاعه. إنّه فنّ المناضل المقاوم، لكنّه أيضا المجدّد والمبتكر والمفاجئ.

منذ البدايات وإلى يومنا هذا كل خطّ يخطّه مبدع فلسطينيّ، وكلّ حكاية يحيكها، كلّ قصيدة وأنشودة يغنّيها، تصبّ كلّها في تشكيل خارطة كيانه الحضاريّة، الثقافيّة، الإنسانيّة والسياسيّة، مشكّلا بذلك هويّة لا يمكن تجاوزها. الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ في الداخل، وفي بلاد العرب المختلفة والمهجر البعيد، كان وما زال متفرّدا بتهجينه للغات تشكيليّة مختلفة، وأحيانًا متضادّة، حيث آثر الفنّان الفلسطينيّ أينما كان على تطويعها لمتطلباته الجماليّة المتضاربة، المركّبة، والمعقدة. كما نرى أنّه سلك مناهج السرديّة التاريخيّة، هذا بالإضافة للرمزيّة والتراثيّة والثوريّة، وذلك من أجل التعبير والتدليل على الواقع الشخصيّ من جهة، والجماعيّ من جهة أخرى. إنّه عبارة عن تصوير زخم للذات الفلسطينيّة التي فرضت على كل مبدع، مخلص لقضيته، أن يطوّر لغته التشكيليّة وكأنّها سلاح يحمله للمقاومة، بل هي التي كانت أنجعها في الظروف السياسيّة المحليّة والعالميّة المواتية. فعلى سبيل المثال نرى مجموعة من الفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين أمثال عبد عابدي، وليد أبو شقرة، تمام الأكحل، فلادمير تماري وغيرهم من الذين حملوا الهمّ السياسيّ ووظّفوه من خلال أعمالهم المختلفة.

في الفنّ الفلسطينيّ المتجدّد لم يكن هناك تحفّظ على النزعة التجريبيّة والطبيعة الطلائعية التي اتّسم بها هذا الفنّ. فهكذا نرى محاولات الرسم بمواد بديلة كالحناء والجلد ( نبيل عناني)، والتراب المخلوط بالتبن (سليمان منصور، وأسد عزي)، والحرق على الخشب (تيسير بركات)، وبقايا نفايات معمارية (جواد المالحي)، ومواد زركشيّة بلاستيكيّة رخيصة الصنع (طالب دويك)، ومواد غير متوقعة أخرى. ثم يمكننا ذكر التجديد في الوسائل والتقنيات كإقحام الرسم بالنحت بالعمل اليدوي بروح الدعابة (أشرف فواخري)، وتمزيق القماش والصاق خشب العمار وقطع الحديد المستعملة (زهدي قادري). زد على ذلك بالنسبة للمساحة الحرّة التي كانت من رصيد مشاركة المرأة في حركة وتجديد الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ، سواء في المضامين أو في الأساليب. يرجع السبب، حسب تقديري لكون كلّ هذه الإبداعات كانت عبارة عن نوع من المقاومة، إمّا للداخل العربيّ المتخاذل والتقليديّ والرجعيّ، أو للخارج المتجاهل، الممانع، القامع والمنتفع. فنجد الفنّ النسويّ الخطابيّ يشاكس ويرفع سبّابة الاتهام بوجه الرجل الشرقيّ وتراث مفاهيمه الذكوريّة المهمّشة لدور المرأة في مسارح الحياة. أسماء مهمّة في حركة التشكيل الفنّيّ الفلسطينيّ أمثال: حنان أبو حسين، رائدة سعادة، فاطمة أبو رومي، ليلى الشوّا،  نبيلة حلمي، جمانة اميل عبّود، منار زعبي، منال محاميد، أنيسة أشقر وغيرهن الكثيرات.

לכידה

أنيسة أشقر، احن الى خبز امي (محمود درويش)، 2005. تصوير: روني كورين
الحقوق محفوظة لبيت الكرمة، المركز الثقافي العربي اليهودي، حيفا

 

كان وما زال على المبدع الفلسطينيّ أن يخلق نفسه من جديد، بلغة مستحدثة، بعيدًا عن بريق أضواء المتاحف وجدران الصالات، بعيدًا عن إملاءات المكان والزمان. كان فضاؤه مفتوحًا، فاستعار، وركّب، وفكّك، ومزج، فكان أوّل من بشّر بطبيعة فنّ “ما بعد المعاصر” أي “البوست مودرن”، فلا حرج فيه لسمات التغريب، والترقيع، والانتقائية، والاستعارة، وتماهي أحداوية المكان والزمان، وثورية استعمال المواد في صنع الحدث التشكيليّ المفاجئ والغير متوقع. إنّه يحمل في عروقه العفويّة المتزامنة بالدقّة والالتزام، كما يحمل تلك السرديّة المشفّرة والرمزيّة التي نعرفها أيضأ في الأدب الفلسطينيّ. إنّه الفنان الذي يبدع بلغات تشكيليّة مختلفة ومتضاربة، وبأساليب متعدّدة بنزعات فكريّة محليّة، وأخرى تركيبيّة فتفكيكيّة، وغيرها من المدارس الفنيّة التقليديّة كالإدراكية والتعبيريّة والواقعيّة والرمزيّة الغربيّة (كأعمال أحمد كنعان، إبراهيم نوباني، خالد حوراني، أسامة سعيد، ميخائيل حلاق وغيرهم). 

هذا التنوع والتعدّد قد واكب الحِراك التشكيليّ الفلسطينيّ في كل مكان تواجدت فيه الذات الفلسطينيّة بمستويات تقنيّة وإدراكيّة مختلفة، فكان فنّ الجداريّات (لغة الشارع المباشرة)ـ ألا هو فنّ العامّة، فنّ الشّعب الذي عبّر من خلاله عن غضبه وآلامه بنصوص وشعارات مقروءة، ومفهومة ومتاحة للقاصي والداني، وقد شكّلت أحيانا سرًا، وعلى وجه السرعة لكي لا يكشفها الرقيب فيزيلها. لقد رأينا كيف أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قد فرض على شبّان فلسطينيّين مَحْوَ تلك الجداريّات التي من هذا النوع لكونها معبّئة للجماهير، ومُناوِرَة للمحتل، ومناهضة للاحتلال.

وكان فنّ الصحافة، وخاصة فنّ الكاريكاتير الساخر بطبيعته، ألذي قُتل أحد روّاده  بسبب نقده اللاذع والساخر (ناجي العليّ). وكان فنّ التسجيل بواسطة الفيديو، الذي انتهج صفة الوثائقيّة، فدوّن بالكلمة والصورة أفعالًا مشينة لجيش الاحتلال، وقطعان المستوطنين، كما سجّل حياة الفلسطينيّ وظروف عذاباته من خلال أعمال رائدة في الفنّ التشكيليّ كأعمال رائدة أدون، إميلي أبو جاسر، منار زعبي، منال محاميد، بشّار الحروب وغيرهم. وهناك التصوير الفوتوغرافي الذي أوصل الصور الواقعيّة التي لا غبار عليها لما يمرّ به الشعب الفلسطينيّ من مآسٍ مختلفة، سواء هنا، أو في أماكن أخرى من الشرق العربيّ (أحلام شبلي، مهند يعقوبي وآخرين). كما وأتى المشهد التركيبيّ /التنصيبي فمسْرّحَ الحالةَ بجلّها بجرعات مقتضبة ومركّزة، فكانت على الغالب قاسية المفعول (كأعمال أنيسة اشقر).

من خلال قراءة التاريخ الفلسطينيّ المعاصر نرى إنّه كان هناك دائمًا من يحارب المبدع الفلسطينيّ ويحاول القضاء عليه وكتم صوته، فكأنّ إخماد الصوت الفلسطينيّ كان مهمّة عربيّة قبل أن تكون أجنبية. بالرغم من ذلك، نجد لغات فنيّة مستجدّة قام بتأليفها الفنّان الفلسطينيّ فوصل بها إلى العالميّة، فكشفت عن قدراته وفنّه وهمّه الجمعيّ في متاحف الدول الغربيّة. وبهذا أثبت الفنّان الفلسطينيّ أنّه إبداع يستحقّ العرض والتقدير، ورسالة إنسانيّة يجب الالتفات إليها. إنّه فنّ شعب سُلب منه وطنه فخلق له أشكالًا من الأوطان البديلة: شعرًا، ورواية، وفيلمًا، ومسرحًا ولوحة (منى حاطوم، سامية حلبي، كمال بلاطة، بشير مخول، عيسى ذيبي وغيرهم).فنّ بدون صالات عرض، ولا متاحف، لا نقّاد للفنّ، ولا مؤرّخين له، ولا مقتنيين، ودون مؤسّسات راعية، كل هذه الأسباب كان يمكن أن تُجهض تمامًا كل عمليّة للإبداع الفنيّ الفلسطينيّ، أو على الأقل  تسلبه لبّه، إلا أنّها بالأخير صبّت كلّها في صالحِهِ، فأضحى فنّ حرّ، متمرد، زخم، لا رقيب يرقبه، فغدا يعرّف نفسه بنفسه، ويحدّد الممنوع والمتاح، إنّه فنّ منحته الظروف الفرصة لخرق المعهود والمألوف في الأعراف التقليدية الفنيّة فاستجاب لها.

أضف إلى الحالة هذه تزامنها مع انفراط وانفلات الهيمنة الأمريكيّة على الفنّ المرئيّ العالميّ، وانتقال مراكز القوى إلى مدن أخرى، وخاصة إلى أوروبا، كبرلين ولندن وميلانو وبرشلونة. ثم هناك ظاهرة كسر الطوق حول دول العالم الثالث، وإقامة معارض موسميّة للفنون في اسطنبول والشارقة وغيرها من بقاع الأرض، بحيث تجذّرت فكرة اللا-مركزيّة وتعدديّة المدارس والمذاهب في الفنّ التشكيليّ المعاصر، فلم يعد هناك مفعول  للنقد والتقويم والتحكيم السائد والمهيمن من الغرب، فضاع المعيار بين الراقي والهابط، بين الشعبيّ والمتداول، وبين المنتقى والأسمى. وهكذا نرى بأنّ المقتني، حامل الدرهم والدينار، هو الذي أصبح يحدّد السعر والذوق الفنّيّ العالميّ، وهو الذي يقرّر ما هو المطلوب والباهظ الثمن، وما هو خارج المعادلة أو المنبوذ من صالات العرض. هنا يجب أن أنوّه بأنّ المقتنيين الكبار كانوا وما زالوا أصحاب الثروة الأغنياء، وأصحاب المصالح، الذين همّهم المتاجرة بالفنّ وإبراز ما هو المريح والمسلّي، لذلك كان أوّل المتضررين من هذه الظاهرة هي فنون العالم الثالث التي تستمدّ إلهامها من آلام وهموم الشعب، فتعرض في المحافل الدولية كبادرة حسن نيّة من أقطاب العالم الغنيّ، ثم تتوارى بسرعة وتختفي عن الأعين إلى غير رجعة.

بهذا السياق أرى أنّ الحركة التشكيليّة الفلسطينيّة، والتي تعتبر فتيّة العهد والتجربة، هي أوّل من عانت وتعاني من محاربة وتجاهل الجهات التي تملك الذراع والباع في المحافل الفنيّة المهمّة في العالم، لأنّ قبولها عند الآخر لم يعد أمرًا فنيًا ثقافيًا وتربويًا فحسب، بل يجرّ معه إلى المنصّة قضيّة وهويّة يريد الكثيرين طمسها وتناسيها. أي نعم، هذه الهويّة الفنيّة واضحة المعالم يرسم ملامحها أفراد وجماعات صغيرة من الفنّانين والفنّانات، إلّا أنّها في كل الحالات وبكل الأساليب والخامات، وأينما وُجِدَت فهي  تؤدّي وظيفة الجهاد الفنّيّ للوجود والتواجد. إنّها هويّة من افتقد وطنه أرضًا ومسكنًا، لكنّه يصنع حضورًا تاريخيًّا مستقلًا ليصبح شعبًا معروفًا يُحتفَى به فيشارك أينما تواجد بتطوير وبناء البلاد بشتى المجالات والمهن، لكنه لم ينسَ أبدًا حنينه وحبّه لبلاد الأجداد، وخاصة أنّ له فيها إنسان وذكريات للمكان والزمان. [/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=”أسد عزّي” image=”644″]

اسد عزي هو فنان تشكيلي ومدرّس فنون في جامعه حيفا وفي أكاديمية الفنون في بيت بيرل.

[/our_team][/vc_column][/vc_row]