[vc_row][vc_column][vc_column_text]“الخدمات الصحّيّة هي بمثابة الصمغ الاجتماعيّ الذي يوفّر الحماية للمواطنين. فهي تبني التضامن وأُسُس المجتمعات المحلّيّة، وتغيّر الطريقة التي ينظر فيها الناس إلى الدولة”. هذا ما قاله ريتشارد هورطون محرر إحدى أهمّ المجلّات الطبّيّة في العالم “The Lancet”،  في مقابلة مع صحيفة هآرتس في التاسع عشر من أيار 2017،  على شرف صدور عدد كامل من المجلّة يتناول جهاز الصحّة في إسرائيل. أثنى هورطون على مَناحٍ معيّنة في الجهاز الطبّيّ في اسرائيل، كصناديق المرضى والعلاقات الوثيقة بين الأبحاث والعلاجات الطبّيّة، لكنّه وجّه انتقادات شديدة ولاذعة لسياسة إسرائيل الصحّيّة في المناطق الفلسطينيّة، ولا سيّما في قِطاع غزّة (راجِعوا هنا).    

ارتأينا في هذا العدد من “منبر” أن نلقي نظرة على الجهاز الصحّيّ في إسرائيل من زاوية العلاقات اليهوديّة – العربيّة، وأن نناقش الأضواء والظلال على حدّ سواء. سنعرض في هذا الإطار الضيّق مقالات قصيرة كتبها باحثون ومهنيّون يعملون في الحقل، وأعضاء جمعيّات مدنيّة تعمل في هذا المضمار. بطبيعة الحال، نحن هنا إزاء قراءات سريعة وخاطفة لهذا الموضوع الرحب والشائك، ونسعى من وراء ذلك إلى تسليط الضوء على هذا الموضوع وإثارة النقاش حوله.

كلّ من يحتاج إلى خدمات طبّيّة (أي نحن جميعنا) لا يستطيع إلّا أن يلحظ الثورة الحقيقيّة الجارية في السنوات الأخيرة في جميع المؤسّسات الطبّيّة ومؤسّسات الرعاية في أنحاء البلاد. حضور العرب في جميع المهن الطبّيّة بارز وواضح وضوح الشمس، والمزيد من الشبّان والشابّات العرب يتّجهون لدراسة موضوع الطبّ في البلاد وخارجها، وينخرطون لاحقًا في الجهاز الطبّيّ على جميع المستويات. بعض مديري المستشفيات في شمال البلاد هم من العرب، وبعض رؤساء الأقسام الطبّيّة عرب، وثمّة العديد من الأطبّاء العرب المرموقين. الأطبّاء والصيادلة وعاملو التمريض العرب يشكّلون اليوم نسبة ملحوظة في القوة العاملة البشرية في جهاز الصحة في اسرائيل، ويصل معدل الصيادلة نحو 40%. وخلال عملنا لإصدار هذا العدد، علمنا أنّ أكثر من مئتَيْ طبيب عربيّ نجحوا في امتحانات الترخيص.         

على هذا النحو تحوّلت المستشفيات إلى مختبرات  للعيش المشترك، حيث يمكث معالِجون ومعالَجون (بكسر اللام تارة، وبفتحها تارة أخرى) من المجموعتين تحت سقف واحد، ويعملون معًا في فضاء إنسانيّ عامّ، يخلو -وإنْ ظاهريًّا- من السياسة ومن الاعتبارات غير الموضوعيّة. التقرير الواسع والمفصّل الذي نشرته الحركة اليهوديّة الإصلاحيّة (“هَتنوعاه لِيَهَدوت مِتكَديمِت”)، في شباط عام 2017 تحت عنوان “رفوءاه شليما” (وهو تعبير بالعبريّة يُستخدم لتمنّي الشفاء التامّ للمريض، لكنّه يعني كذلك مجازيًّا في هذا السياق: “طبّ كامل ومتكامل” -المترجم)، طرح أنّ هذه الظاهرة تشكّل “مثالًا للحياة المشترَكة” (انظروا  هنا).         

ويقول البروفيسور رياض إغباريّة الذي رأَسَ دائرة الصيدلة في جامعة بن غوريون لسنوات عديدة: “اللقاء اليوميّ بين مزوِّد العلاج العربيّ والمريض اليهوديّ ضروريّ من أجل تقليص التباعد والنفور بين المجتمعين. اللقاء في الصيدليّة والثقة بالصيدلانيّ أنّه سيوفّر الدواء للأوجاع الجسديّة يولّدان التعاون والثقة المتبادلة بين الطرفين، وهو ما يؤدّي تدريجيًّا إلى انهيار منظومة الأفكار النمطيّة وبناء العلاقات التي ترتكز على الاحترام”.       

هل الصورة “ورديّة” إلى هذا الحدّ حقًّا؟ هل تتحقّق في هذا الموضوع الحسّاس والمهمّ مساواة بين اليهود والعرب يمكن لها أن تشكّل مثالًا يُحتذى به في المجالات الأخرى؟ المسح الصحّيّ والبيئيّ الذي أجرته جمعيّة الجليل في صفوف السكّان العرب في إسرائيل يكشف النقاب عن نتائج مقلقة جدًّا، ويُظهر وجود أزمة صحّيّة خطيرة في المجتمع العربيّ، ويقترح مُعِدّو المسح وضع خطّة إستراتيجيّة بنيويّة للتعامل مع هذه الأزمة. في هذا العدد، نورِدُ موجَزًا للنتائج والتوصيات التي يقدّمها د. محمّد خطيب أحد مُعِدّي المسح، وننشر مقابلة مع بكر عواودة المدير العامّ لجمعيّة الجليل.

في مقالة د. نهاية داوود، الاختصاصيّة في الصحّة العامّة من جامعة بن غوريون في النقب، تسلّط الكاتبة الضوء على العلاقة الوثيقة بين غياب المساواة في الصحّة وبين الفجوات الاجتماعيّة- الاقتصاديّة، والطّبقيّة، والسياسيّة، والجندريّة، الأمر الذي يخلق مستويات متدنّية من الصحّة البدنيّة والنفسيّة في صفوف مجموعات الأقليّة حول العالم، ولا يحيد  الجمهور الفلسطينيّ في إسرائيل عن هذه القاعدة. تتناول د. داوود الأسباب التاريخيّة للفجوات، وتشير بأنّ عملياّت الخصخصة المتزايدة في  الجهاز الصحيّ تَنهش في  مبدأ المساواة الذي يرتكز عليه قانون التأمين الصحيّ الرسميّ. في الجزء الأخير من المقالة تعرض المؤلّفة باقةً من التوصيات لتحسين الوضع القائم.

غياب المساواة بين الفئات الاجتماعيّة في إسرائيل يتجاوز الهُويّات الإثنيّة والقوميّة ليشمل المناطق الجغرافيّة، حيث تعاني البلدات التي تقع في الأطراف من صعوبات في مناليّة العلاجات الطبّيّة المرموقة. هذا الأمر ينعكس جليًّا في مقالة مرغَنيت غوطلير والمحامية نوريت ديساو من المنتدى المدنيّ لتطوير الصحّة في الجليل. في الفترة الأخيرة، علت أصوات رؤساء سلطات محلّيّة يهوديّة وعربيّة في الجليل محتجّة على ما يدّعون أنّه تدهوُر متواصل في أوضاع الخدمات الصحّيّة في الشمال.  

 طبيب الأسنان د. عارف مطر يعالج اليهود والعرب على حدّ سواء، ويرى أن عمله  ينطوي على رسالة إنسانيّة، ويرى أنّه يسبح هو ومعالَجوه ضدّ التيّار المتعكّر في السياسة الإسرائيليّة، ويتحدّث عن غياب المساواة بين أطبّاء الأسنان داخل الجهاز، وهو ما دفعه مع زملاء له إلى إقامة نقابة عربيّة مستقلّة هي “جمعيّة أطبّاء الأسنان العرب”.

تتحدّث البروفيسورة أورلي مانور في مقالتها عن حيثيّات قرار المجلّة الطبّيّة العريقة The Lancet المذكورة أعلاه تخصيص عددها الحاليّ لجهاز الصحّة في إسرائيل ويجري التشديد في سلسلة المقالات الخاصّة التي نُشرت في هذا العدد (وكانت البروفيسورة مانور من بين محرّريه) على تفرُّد المجال الصحّيّ في إسرائيل في كلّ ما يتعلّق بالتعاون بين اليهود والعرب، كما تسلّط المقالات الضوء على التحدّيات الأساسيّة التي تواجه الجهاز الصحّيّ في إسرائيل، بما في ذلك الفجوات المتواصلة في الخدمات التي تتلقّاها الفئات السكّانيّة المختلفة.         

على الرغم من تخصيص العدد الحاليّ من “منبر” للجهاز الصحّيّ داخل دولة إسرائيل، لا يمكن تجاهل مسؤوليّة إسرائيل عمّا يحصل في ما وراء الخطّ الأخضر، حيث يُعتبر الوضع الصحّيّ في “المناطق” إلى مدى بعيد جزءًا من الواقع الإسرائيليّ، ولذا قرّرنا اختتام هذا العدد بمقالة عن هذا الموضوع كتبها هداس زيف والبروفيسور داني فيلك (من منظّمة “أطبّاء من أجل حقوق الإنسان”). ترسم المقالة صورة قاتمة وصعبة للوضع الصحّيّ في صفوف السكّان الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة، حيث تسعى المنظّمة بقدراتها المتواضعة إلى تطبيق قَسَم أبقراط بمنح العلاج المتساوي للجميع.       

نأمل أن يقدّم هذا العدد* إسهامًا متواضعًا في تحويل هذا الموضوع المهمّ والشائك -بجوانبه المتفائلة والإشكاليّة- إلى جزء من النقاش الواسع حول العلاقات بين المجتمعَيْن القوميَّيْن في هذه البلاد. ثمّة أهمّيّة في اعتقادنا لإجراء أبحاث معمّقة حول التعاون اليهوديّ – العربيّ الوثيق في الجهاز الصحّيّ في إسرائيل، والنظر إليه باعتباره أنموذجًا محتمَلًا للتعاون في مضامير أخرى.

نأمل أن ينال هذا العدد من مجلة منبر إعجابكم ويسرّنا تلقّي ملاحظاتكم وردود أفعالكم.

ساره أوستسكي-لزار – المحرّرة

يوني مندل وحنان سعدي – عضوا هيئة التحرير

 


* ترجم المقالات من العبرية جلال حسن[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column][vc_column_text][/vc_column_text][/vc_column][/vc_row][vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]الحقّ في الصحّة هو من حقوق الإنسان الأساسيّة التي جرى ترسيخها في المعاهدات الدوليّة التي وضعتها الأمم المتّحدة.[1] الصحّة هي مورد شديد الأهمّيّة في سبيل ممارسة حياة يوميّة سليمة، ومن أجل بناء مجتمع منتج. إعلان ألما آتا لمنظّمة الصحّة العالميّة من العام 1978 ناشد الدول الأعضاء من أجل تطبيق مبدأ المساواة في الصحّة وتقليص الفجوات بين الدول، وفي داخلها.[2] على الرغم من ذلك، لا تنجح معظم الدول في العالم في الوصول إلى المساواة في الصحّة، وثمّة فجوات بين مجموعات سكّانيّة مختلفة.[3] يمكن لغياب المساواة في الصحّة أن ينعكس في واحدة -أو أكثر- من الحالات التالية: عندما لا يكفل القانون الحقّ الأساسيّ في الصحّة، أي في ظلّ غياب قانون صحّة رسميّ؛ وعندما لا يكون توزيع الخدمات الصحّيّة متساويًا؛ وعندما لا تتساوى الحالة الصحّيّة لدى مجموعات سكّانية مختلفة.[4] الصحّة البدنيّة والنفسيّة لمجموعات الأقلّيّة في العالم، بمن فيها مجموعة السكّان الأصلانيّين، أقلّ جودة من صحّة الجمهور العامّ.[5] الأبحاث المستجدّة في هذا المضمار تشير إلى أنّ جذور غياب المساواة في الصحّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهيكليّة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة وبالفجوات الاجتماعيّة – الاقتصاديّة، والطبقيّة، والسياسيّة، والجندريّة، ومردّ جميعها إلى التمييز والتوزيع غير المتساوي للموارد، وعلاقات القوّة داخل المجتمع.[6]

في إسرائيل، يرتكز قانون الصحّة الرسميّ الصادر عام 1994 على مبادئ المساواة والعدل، ويُعتبر جهاز الصحّة فيها من أفضل الأجهزة الصحّيّة في العالم؛ لكن على الرغم من التحسين الذي طرأ على مؤشّرات الصحّة لمجْمَل السكّان منذ إقامة إسرائيل حتّى اليوم، ما زالت هناك فجوات في الصحّة بين مجموعات سكّانيّة مختلفة. الفجوات الأساسيّة في الصحّة قائمة في الأساس بين المجموعتين العرْقيّتين الكُبريَيْن في البلاد: السكّان الفلسطينيّين مواطني إسرائيل، ومواطنيها من السكّان اليهود.[7] هذه الفجوات تَظهَر على نحوٍ شبه متساوق في مؤشّرات صحّيّة متدنّية في صفوف الجمهور العربيّ مقارنة بالجمهور اليهوديّ: متوسّط العمر المتوقّع عند الولادة أقلّ؛[8] وفَيات الرضَّع أعلى؛[9] النسب في انتشار الأمراض المزمنة (نحو السكّريّ وسرطان الرئة) أعلى؛ مستوى الصحّة النفسيّة أدنى.[10] يضاف إلى ذلك أنّ الفجوة في بعض المؤشّرات تشهد ارتفاعًا؛ فعلى سبيل المثال، قبل عشرين عامًا كان الفرق في متوسّط العمر المتوقّع عند الولادة بين المجموعتين عامين، لكنّه يبلغ اليوم 3.3 عام لصالح المجموعة السكّانيّة اليهوديّة.[11]

في ما يلي، سأسعى إلى التوقّف عند العوامل الأساسيّة لغياب المساواة في الصحّة بين اليهود والفلسطينيّين مواطني إسرائيل، وذلك من خلال الرجوع إلى الأدبيّات المهنيّة ومصادر داعمة.

غياب المساواة العِرْقيّ في إسرائيل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمكانة السياسيّة المتدنّية للفلسطينيّين مواطني إسرائيل، ويعكس سيرورات تاريخيّة وطبقيّة واجتماعيّة – اقتصاديّة مرّ بها المجتمع العربيّ، يتّصل بعضها بسياسات التمييز المتعاقبة وغياب المساواة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة بين الشريحتين السكّانيّتين، ويُعزى بعضها الآخر إلى الجهاز الصحّيّ.

تعود جذور غياب المساواة في الجهاز الصحّيّ إلى سيرورات بدأت بالتطوُّر منذ إقامة دولة إسرائيل،[12] ففي تلك الفترة جرى تقزيم الاحتياجات الصحّيّة للبقيّة الباقية من الفلسطينيّين لصالح الاحتياجات الضخمة والمعقّدة لأفواج المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى البلاد،[13] وتلقَّوْا علاجاتهم عن طريق صناديق المرضى التي كانت قد بدأت تعمل في فترة الانتداب البريطانيّ. في تلك الفترة، شكّل الفلسطينيّون أغلبيّة مطلقة في البلاد وتلقَّوْا نوعين من الخدمات الصحّيّة: الخدمات الصحّيّة الحديثة التي وفّرها أطبّاء في عياداتهم الخاصّة، وكانت أعدادهم قليلة في تلك الفترة؛ وخدمات وفّرها مطبِّبون تقليديّون -وهؤلاء شكّلوا الأغلبيّة.[14]

عند إقامة إسرائيل، أهدرت الدولة فرصة بناء جهاز طبّيّ يضمن المساواة؛ فقد عمل جهاز “الخدمات الصحّيّة للأقلّيّات” من خلال التنسيق التامّ مع الحكم العسكريّ الذي خضع له مواطنو إسرائيل الفلسطينيّون على امتداد 18 عامًا (1948 – 1966). لهذا السبب تخلّف تطوير الخدمات الصحّيّة في المجتمع العربيّ كثيرًا عن تطويرها في المجتمع اليهوديّ. بعد إلغاء الحكم العسكريّ ودخول العرب إلى سوق العمل الإسرائيليّة، بدأ العرب يجنون الفائدة من خدمات الصحّة التابعة لصناديق المرضى، ولا سيّما أعضاء نقابة العمّال العامّة “الهستدروت” وأبناء عائلاتهم الذين حصلوا على غطاء تأمينيّ من خلال المشغّلين في سوق العمالة الإسرائيليّة، أو كانوا مقرّبين للأحزاب التي سيطرت على الهستدروت.[15] على هذا النحو بقي نحو ربع السكّان الفلسطينيّين في إسرائيل بدون تأمين صحّيّ من أيّ نوع كان؛[16] أمّا الموارد التي استُثمرت في تطوير الخدمات الصحّيّة في المدن والقرى العربيّة، فقد كانت شحيحة مقارَنةً بتلك التي جرى استثمارها في البلدات اليهوديّة.

على الرغم من أنّ قانون التأمين الوطنيّ الرسميّ الصادر عام 1994 قد غيّر هذا الوضع، وضَمِنَ سلّة خدمات صحّيّة لكلّ مواطن،[17] فإنّه -بسبب طبيعته العموميّة- لم يتطرّق على الدوام إلى المشاكل الصحّيّة التي يتفرّد بها المجتمع العربيّ، كما لم تتطرّق إليها السياسات التي اتّبعتها وزارة الصحّة. على سبيل المثال، على الرغم من أنّ نسبة المستخدَمين العرب في مهن التمريض والطبّ في وزارة الصحّة تفوق نسبة المستخدَمين العرب في وزارات حكوميّة أخرى (نحو 10% مقابل 6%)،[18] فإنّ تمثيل العرب في وظائف مركزيّة في إدارة وزارة الصحّة متدنٍّ شديد التدنّي وشبه معدوم، باستثناء بعض العاملين العرب في مواقع مرموقة في إدارات الألوية، ولا سيّما لواء الشمال.[19] هذا الواقع ينسحب كذلك على صناديق المرضى التي يشغل العرب وظائف قليلة جدًّا في إداراتها المركزيّة.[20] “تحييد” الاعتبارات السياسيّة عن المجال الصحّيّ، والتعامل معه كمجال كونيّ عامّ خالٍ من سياسات القوّة، أدّيا إلى دمج العرب كمستخدَمين في جهاز الصحّة من ناحية، لكنّه دفع في الوقت ذاته إلى ممارسة سياسات إقصائيّة للعرب عن الوظائف المركزيّة، وأدّى إلى عدم اعتراف وزارة الصحّة على امتداد سنوات عديدة بوجود الفجوات الإثنيّة في الصحّة بين المواطنين اليهود والمواطنين الفلسطينيّين، حتّى عندما عُرِضت هذه الفجوات في نشرات مختلفة أصدرتها الوزارة نفسها.

لهذا السبب لم تطبَّق سياسة ردم الفجوات،[21] إلّا في بعض الحالات الاستثنائيّة، كبرنامج تقليص وفَيات الرضَّع في جنوب البلاد الذي تحوم حول مدى نجاحه شكوكٌ كثيرة (وَفق تقرير شخصيّ قدّمته مديرة البرنامج).[22] مراجعة التقرير الأخير الذي أصدرته وزارة الصحّة تُظهِر أنّ ثمّة اليوم إقرارًا معيّنًا بوجود الفجوات بين السكّان اليهود والعرب في إسرائيل، لكن عمليًّا -حتّى كتابة هذه السطور- لا يجري تطبيق سياسة تفضيل مصحِّح في أيّ من المجالات، على الرغم من تطبيق  هذه السياسة في صفوف مجموعات أقلّيّة أخرى (كالجمهور الأثيوبيّ -على سبيل المثال).[23] أحد الأمثلة البارزة هو موضوع التدخين في صفوف الرجال العرب، حيث تفوق نسبة المدخّنين العرب كثيرًا نسبة نُظَرائهم في صفوف اليهود (نحو 43% مقابل نحو 20%).[24] وقد أظهرت الأبحاث أنّ ثمّة علاقة مباشرة بين التدخين ونِسب الإصابة المرتفعة بمرض سرطان الرئة في صفوف الرجال العرب، لكن على الرغم من ذلك لم يَـجْرِ حتّى الآن تطبيق خطّة تمييز مصحِّح لمعالجة هذه الفجوة، ولم تُتّخَذ أيّة إجراءات وقائيّة، ولم توضَع خطط خاصّة لتقليص حجم التدخين في صفوف الرجال العرب، كما يحصل منذ سنين -وبنجاح- في  قِطاعات معيّنة في الدولة (كالجيش -على سبيل المثال).[25]

علاوة على ذلك، ثمّة مشكلة مزمنة تتعلّق بمناليّة ووفرة الخدمات الصحّيّة في صفوف العرب، وهي تتعلّق بالتوزيع غير المتساوي لخدمات الصحّة، وتنبع من الفجوات القائمة بين المركز ومناطق الأطراف، وهذه الأخيرة تضمّ تجمُّعات كبيرة للعرب، ولا سيّما في منطقة الشمال. ووَفق تقرير وزارة الصحّة، لا يتمتّع سكّان مناطق الأطراف بمستوى الخدمات الصحّيّة نفسها التي يتمتّع بها سكّان المركز.[26] الغالبيّة العظمى من المواطنين الفلسطينيّين تسكن في هذه المناطق، ولذا ثمّة احتمال كبير أنّهم يعانون من نقص في الخدمات الصحّيّة التي تقدّمها صناديق المرضى ووزارة الصحّة. وبما أنّ الملفّات الطبّيّة لا تأتي على ذكر الانتماء الإثنيّ (القوميّة) في إطار خدمات الصحّة في المجتمع المحلّيّ، ثمّة صعوبة في تحديد مستوى الخدمات التي يحصل عليها العرب مقارَنةً باليهود تحديدًا دقيقًا، ولذا سيكون أيضًا من الصعب تحديد سياسة تصحيحيّة لهذا الوضع. وقد أظهر بحث نوعيّ (qualitative research) أُجْرِيَ قبل أكثر من عَقد واحد أنّ جودة الخدمات الصحّيّة التي تُقدَّم للجمهور العربيّ، ولا سيّما في منطقة الشمال، أقلّ من جودة الخدمات التي يحصل عليها الجمهور اليهوديّ.[27] في الكثير من الدول، يؤتى على ذكْر الهُويّة العرْقيّة للمعالَج، ويجري استخدام البيانات كقاعدة للتخطيط الإستراتيجيّ لخدمات الصحّة المتساوية (على سبيل المثال: غالبيّة دول الاتّحاد الأوروبيّ). [28]

خصخصة جهاز الصحّة الإسرائيليّ التي بدأت بالتعاظم في السنوات الأخيرة نهشت (وما زالت تنهش) في مبدأ المساواة الذي يرتكز عليه قانون التأمين الصحّيّ الرسميّ، وأدّت إلى ارتفاع في إنفاق الأفراد على الصحّة. هذه الخصخصة أضرّت بمناليّة الخدمات الصحّيّة الاقتصاديّة في صفوف المجموعات السكّانيّة الضعيفة، والجمهور العربيّ من بينها.[29] وبسبب التَّماسّ الوثيق في إسرائيل بين العِرْق والحالة الاقتصاديّة، تصل نِسَب الفقر في صفوف العائلات العربيّة إلى نحو 50%، بينما تصل هذه النسب في صفوف العائلات اليهوديّة إلى 14%.[30] وأظهرت الأبحاث امتناعًا عن استهلاك خدمات صحّيّة معيّنة وعن اقتناء أدوية ضروريّة، وذلك على خلفيّة الضائقة الاقتصاديّة في المجتمع العربيّ.

وأظهر تقرير نشرته منظّمة الصحّة العالميّة (2008)، حول موضوع تقليص غياب المساواة في الصحّة، أنّ الجهاز الصحّيّ لا يشكّل سوى عامل واحد من بين مجموعة العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تؤثّر على حالة الصحّة.[31] تأثير الجهاز الصحّيّ على الحالة الصحّيّة مهمّ، لكن ثمّة أهمّيّة أكبر لعوامل أخرى، نحو: التربية والتعليم ومستوى التحصيل العلميّ والتشغيل والعمل والرفاه والمواصلات والإسكان والخدمات الاجتماعيّة الأخرى. سياسة التمييز التي تمارسها إسرائيل تجاه مواطنيها الفلسطينيّين منذ سنين طويلة،[32] ودمجهم غير المتساوي في الاقتصاد الإسرائيليّ، دفعا إلى نموّ اقتصاديّ بطيء، بل حتّى إلى تدهور في أوضاعهم الاقتصاديّة، وهذا عامل مهمّ لتفسير وجود الفجوات في الصحّة بين المجموعتين السكّانيّتين.[33] سيرورات التغيير المتسارعة التي فُرِضت عنوةً على المجتمع الفلسطينيّ في العقود الأخيرة: النكبة في العام 1948، وتهجير الناس من أراضيهم وبيوتهم،[34] وسياسة مصادرة الأراضي وهدم المنازل،[35] كلّها ألحقت الضرر بثقة الفلسطينيّين بمؤسّسات الدولة، ووزارة الصحّة من بينها، وأثّرت على مفهوم الصحّة، وعلى أساليب العيش التي نزعت إلى النمط الغربيّ، وهو نمط غير صحّيّ بالضرورة. على سبيل المثال، تبيّن أنّ ثمّة علاقة بين أسلوب الحياة الذي يتطلّب الكثير من الجلوس، والممارسة القليلة للنشاط البدنيّ، ولا سيّما في صفوف النساء، وارتفاع الوزن والسمنة المفْرطة.[36]ثمّة مشكلة أخرى لا تقلّ أهمّيّة عن سابقاتها، هي أنّ موضوع الصحّة ليس في أعلى سلّم الأفضليّة لدى صُنّاع القرار في إسرائيل بعامّة، ولا في المجتمع العربيّ بخاصّة. الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ، ومكانة المجتمع العربيّ المتدنّية، والمشاكل الاقتصاديّة الاجتماعيّة، ولا سيّما الفقر والعنف والبطالة في صفوف الشباب بخاصّة، هذه كلّها تستقطب الاهتمام، ويجري في المقابل إهمال مواضيع أخرى كالاهتمام بالحالة الصحّيّة ومكافحة الأمراض. المجتمع العربيّ يصبّ جلّ طاقاته اليوم في صراع البقاء والمواجهة اليوميّة للسياسات الحكوميّة، العنصريّة في معظمها، والتي تلحق الضرر بالعرب كمواطنين متساوي الحقوق. علاوة على أنّ العنصريّة بذاتها تمسّ بالصحّة (على سبيل المثال: سياسة هدم المنازل التي تبقي عائلات بأكملها بدون مأوى سياسةٌ تنتهك الصحّة)،[37] سياسة القضاء على الفقر دون التطرّق العينيّ إلى الفقر في المجتمع العربيّ تحمل في طيّاتها الكثير من الإشكال، وقد تُفضي إلى توسيع الفجوات بين المجموعتين السكّانيّتين. كلّ هذه الأمور حرفت الاهتمام عن الانشغال بالصحّة في المجتمع العربيّ ومن قِبل القيادات المجتمعيّة. على سبيل المثال، لا يجري التطرُّق إلى موضوع الصحّة تطرُّقًا جِدّيًّا في أيّ من الوثائق الرؤيويّة التي وُضعت في المجتمع العربيّ في السنوات الأخيرة، وثمّة عدد قليل من الجمعيّات والمنظّمات المدنيّة التي تعمل في مجال الصحّة في المجتمع العربيّ، مقارَنةً بأعداد الجمعيّات التي تعمل في مواضيع اجتماعيّة أخرى، والنشاطُ المجتمعيّ في هذا المضمار شحيح جدًّا.

كي يطرأ تغيُّر جذريّ على الحالة الصحّيّة لدى المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل، ثمّة حاجة إلى تغيير جذريّ على صعيدين أساسيّين. على صعيد الجهاز الصحّيّ، يجب الاعتراف بوجود الفجوات الإثنيّة بين العرب واليهود في الصحّة وفي الخدمات الصحّيّة، والعمل على تقليصها. ثمّة أهمّيّة لفحص منظومة توزيع الخدمات الصحّيّة والتزويد بها من قِبل صناديق المرضى والعمل على تصحيح الفجوات التي في داخلها، وهو ما يتطلّب شفّافيّة في المعلومات من قِبل الصناديق. على توفير الخدمات الملاءَمة ثقافيًّا ولغويًّا للمرضى العرب أن يتحوّل إلى منهج عمل أساسيّ في الجهاز الصحّيّ. وعلى دمج العرب في الوظائف المرموقة داخل وزارة الصحّة وفي الجهاز الصحّيّ أن يصبح جزءًا من التخطيط الإستراتيجيّ الطويل الأمد لتقليص الفجوات. من المهمّ تطبيق سياسة التمييز المصحِّح عبْر رصد ميزانيّات خاصّة لتقليص الفجوات في قضايا صحّيّة حارقة وملحّة، نحو: وفَيات الرضَّع؛ التدخين في صفوف الرجال؛ السمنة المفْرطة في صفوف النساء؛ السكّريّ؛ الحوادث في صفوف الأولاد؛ الصحّة النفسيّة؛ العنف داخل العائلة. يجب العمل على فضح العنصريّة والتمييز في وزارة الصحّة والقضاء عليهما عبْر تعيين مسؤولين عن هذه الظاهرة على مستوى الألوية، وعلى مستوى خدمات الصحّة المجتمعيّة وفي المستشفيات. الكثير من الدول في العالم أقامت أقسامًا خاصّة في جهازها الصحّيّ لمعالجة صحّة مجموعات الأقلّيّة. من أمثلة ذلك: المؤسّسات القوميّة للصحّة NIH في الولايات المتّحدة، والمؤسسّات القومية للصحّة NIH في بريطانيا. هذه الخطوة تستوجب تأهيل قوى بشريّة للملاءَمة الثقافيّة وتأهيل أشخاص لوظائف “مُروّجين للصحّة”. تصبح هذه الإستراتيجيّة ممكنة عندما يُدخِل مزوّدو الخدمات الصحّة رمزًا تشخيصيًّا للقوميّة والمنشأ في الملفّ الصحّيّ، كما هو متعارَف عليه في بعض الدول الغربيّة التي تجري فيها متابعة الفجوات في الصحّة ومن ثَمّ تُرصَد الميزانيّات الملائمة لدراسة الموضوع.

على مستوى المجتمع العربيّ في الداخل، من الواجب إقامة فريق عمل مهنيّ يعمل على تشخيص القضايا الصحّيّة الملحّة وينقلها لتكون ضمن معالجة قيادات المجتمع العربيّ (نوّاب البرلمان والأحزاب ورؤساء السلطات المحلّيّة)، وهؤلاء يستطيعون القيام بدَور مهمّ في هذا المضمار. يستطيع هذا الفريقُ العملَ من خلال التعاون مع صُنّاع القرار في جهاز الصحّة في سبيل تحسين الأوضاع الصحّيّة داخل المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل، من خلال ممارسة الضغوط على صُنّاع القرار في الحكومة وفي وزارة الصحّة وفي الوزارات التي تتقاطع مواضيع انشغالها مع مواضيع انشغال وزارة الصحّة. من شأن تغيير السياسة الحكوميّة تجاه المجتمع العربيّ والتعامل مع أبنائه كمواطنين متساوي الحقوق أن يحسّن المكانة السياسيّة لهذا المجتمع، وأن يُفْضي إلى تقليص غياب المساواة الاجتماعيّ – الاقتصاديّ، ومن ثَمّ إلى تقليص غياب المساواة في الصحّة بين مواطني إسرائيل الفلسطينيّين ومواطنيها اليهود.

 


* ترجم المقال من العبرية جلال حسن

[1] الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (Universal Declaration of Human Rights)، الذي جرى التصديق عليه في العاشر من كانون الأوّل عام 1948؛ إعلان ألما-آتا من العام 1978، الذي تبنّته الدول الأعضاء في منظّمة الصحّة العالميّة؛ معاهدة أوتاوا للنهوض بالصحّة (Ottawa Charter for Health Promotion) التي جرى التوقيع عليها في العام 1986 في مؤتمر منظّمة الصحّة العالميّة.  

[2] World Health Organization, Alma-Ata Declaration (1978)

[3] Michael Marmot, Carol D. Ryff, Larry L. Bumpass, Martin Shiply, and Nadine F. Marks, “Social Inequalities in Health: Next Questions and Converging Evidence,” Social Science and Medicine 44 (1997), pp. 901–910

[4] يهوديت شوفال وعوفرا أنسون، هَعيكار هَبريئوت [الصحّة هي الأساس]: البنْية الاجتماعيّة والصحّة في إسرائيل: دار النشر ماغنس، 2000. (بالعبريّة)

[5] Andrea E. Bombak and Sharon G. Bruce, “Self-Rated Health and Ethnicity: Focus on Indigenous Populations,” International Journal of Circumpolar Health 71, 1 (2012)

[6] David R. Williams, “Race, Socioeconomic Status, and Health: The Added Effects of Racism and Discrimination,” Annals of the New York Academy of Sciences 896 (1999), pp. 173–188; Laia Becares, James Nazroo, and Mai Stafford, “The Buffering Effects of Ethnic Density on Experienced Racism and Health,” Health & Place 15, 3 (2009), pp. 670–678; Signe S. Jervelund and Allan Krasnik, “Poorer Self-Perceived Health among Migrants and Ethnic Minorities Versus the Majority Population in Europe: A Systematic Review,” International Journal of Public Health 55, 5 (2010), pp. 357–371; Jennifer S. Mindell, Craig S. Knott, Linda Ng Fat, Marilyn A. Roth, Orly Manor, Varda Soskolne, and Nihaya Daoud, “Explanatory Factors for Health Inequalities across Different Ethnic and Gender Groups: Data from a National Survey in England,” Journal of Epidemiology and Community Health 68, 12 (2014), pp. 1133–1144

[7] Nihaya Daoud, “Explanatory Pathways to Socio-Economic Inequalities in Health among the Arabs in Israel,” Ph.D. dissertation, Hebrew University of Jerusalem, 2007

[8] Ameed Saabneh, “Arab-Jewish Gap in Life Expectancy in Israel,” European Journal of Public Health 26, 3 (2016), pp. 433–438; Wasef Na’amnih, Khitam Muhsen, Jalal Tarabeia, Ameed Saabneh, and Manfred S. Green, “Trends in the Gap in Life Expectancy between Arabs and Jews in Israel between 1975 and 2004,” International Journal of Epidemiology 39, 5 (2010), pp. 1324–1332

[9] المركز القوميّ لمراقبة الأمراض، حالة الصحّة في إسرائيل 2010، تل هَشومير: المركز القوميّ لمراقبة الأمراض، 2011.

[10] المصدر السابق.

[11] دائرة الإحصاء المركزيّة، “متوسّط العمر المتوقّع في إسرائيل 2014” (بيان صحفيّ)، دائرة الإحصاء المركزيّة، 2015.

[12] شوفال وأندرسون (الهامش ذو الرقم 3 أعلاه).

[13] المصدر السابق.

[14] Nira Reiss, The Health Care of Arabs in Israel, Boulder, CO: Westview Press, 1991

[15] المصدر السابق.

[16] Mark Farfel, Bruce Rosen, Ayeleth Berg, and Revital Gross, Arabs’ and Jews’ Perceptions and Use of the Health System Following Implementation of the National Health Insurance Law: Findings from a Survey of the General Population, Jerusalem: JDC-Brookdale, 1997

[17] المصدر السابق.

[18] ران رزنيك، دمج العرب مواطني إسرائيل في جهاز الصحّة: هل هو قصّة نجاح؟ يوزموت (“مبادرات”) كيرين أفراهام، 2011.

[19] المصدر السابق.

[20] المصدر السابق.

[21] المركز القوميّ لمراقبة الأمراض (الهامش ذو الرقم 9 أعلاه)؛ ليئون إبشتاين، راحيل غولدفوغ، شروق إسماعيل، مريام غرينشتاين، باروخ روزين، تقليص غياب المساواة وغياب العدل في الصحّة في إسرائيل؛ نحو سياسة قوميّة وخطّة عمل، مايرز – جوينت – معهد بروكدايل، 2006.

[22] وَفق تقرير شخصيّ لمديرة البرنامج خلال محادثة معها.

[23]آما آفيربوخ وشولاميت آفني، غياب المساواة في الصحّة ومواجهته، مديريّة التخطيط الإستراتيجيّ والاقتصاديّ، 2015.

[24] حاييم غيفاع هاسفيل، 2016، تقرير وزير الصحة حو التدخين في إسرائيل 2015، خدمات صحّة الجمهور، وزارة الصحّة، 2016.

[25] المصدر السابق.

[26] آفربوخ وأفني (الهامش ذو الرقم 23 أعلاه).

[27] إبشتاين وآخرون (الهامش ذو الرقم 21 أعلاه).

[28] European Union Agency for Fundamental Rights, Inequalities and Multiple Discrimination in Access to and Quality of Healthcare, Luxembourg: Publications Office of the European Union, 2013

[29] Dani Filc, “Circles of Exclusion: Obstacles in Access to Health Care Services in Israel,” International Journal of Health Services 40, 4 (2010), pp. 699–717

[30] شلومو سفيرسكي، إيتي كونور – أطياس، وأريان أوفير، صورة الوضع الاجتماعيّ الراهنة 2013، مركز أدفاه، 2014.

[31] Michael Marmot, Sharon Friel, Ruth Bell, Tanja A.J. Houweling, and Sebastian Taylor. “Closing the Gap in a Generation: Health Equity through Action on the Social Determinants of Health,” The Lancet 372, 9650 (2008), pp. 1661–1669

[32] سفيرسكي، كونور، وأوفير(الهامش ذو الرقم 30 أعلاه).

[33] Nihaya Daoud, Varda Soskolne, Jennifer Mindell, Marilyn Roth, and Orly Manor, “Ethnic Inequalities in Health in Israel: The Contribution of Socio-Economic Position,” (under review)

[34] Nihaya Daoud, Ketan Shankardass, Patricia O’Campo, Kim Anderson, and Ayman K. Agbaria, “Internal Displacement and Health among the Palestinian Minority in Israel,” Social Science & Medicine 74, 8 (2012), pp. 1163–1171

[35] Nihaya Daoud and Yousef Jabareen, “Increased Depressive Symptoms among Arab Bedouin Women Under Threat of House Demolition in Southern Israel,” Health and Human Rights 16, 1 (2014), pp. 179–191

[36] Ofra Kalter-Leibovici, Flora Lubin, Ahmed Atamna, et al., “High Rates of Obesity and Diabetes among Israeli Arabs: Preliminary Results of the Hadera District Study,” paper presented at the American Diabetes Association 63rd Scientific Sessions, New Orleans, Louisiana, June 13–17.

[37] Nihaya Daoud and Yousef Jabareen, “Depressive Symptoms Among Arab Bedouin Women Whose Houses are Under Threat of Demolition in Southern Israel: A Right to Housing Issue,” Health and Human Rights 16. 1 (2014)[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=”د. نهاية داوود” image=”1019″]محاضِرة كبيرة في قسم صحّة الجمهور، ورئيسة مسار النهوض بالصحّة، ورئيسة لجنة الأخلاق في قسم العلوم الصحّيّة، جامعة بن غوريون في النقب.[/our_team][/vc_column][/vc_row][vc_row][vc_column][vc_column_text][/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]قبل مدّة وجيزة، خصّصت المجلّة العلميّة “لانست” (وهي إحدى المجلّات الرياديّة والعريقة في العالم في مجال الطبّ والصحّة) أحد أعدادها لموضوع “الصحّة في إسرائيل” (هنا). ويعكس هذا العدد تغيُّرًا ملحوظًا في تعامل المجلّة مع إسرائيل، حيث قامت خلال حملة “تسوك إيتان” (“الجرف الصامد”) في صيف العام 2014 بنشر مقالة تحت عنوان ”Open Letter to the People of Gaza“ تميّزت -برأي الكثيرين- بنزعة عدائيّة شديدة اللهجة تجاه إسرائيل. لقي المقال ردود فعل حادّة وقاسية من قِبَل الكثير من الباحثين في أرجاء العالم، وهجومًا كاسحًا على محرّر المجلّة الرئيسيّ البروفيسور ريتشارد هورطون، حتّى إنّ بعض هؤلاء دعَوْا إلى مقاطعة المجلّة ومحرّرها الرئيسيّ. في المقابل، تبنّى باحثان من إسرائيل توجُّهًا معاكسًا؛ فقد قام البروفيسور كارل سكوريتسكي من التخنيون، والبروفيسور مارك كارفيلد من جامعة بن غوريون في النقب، بدعوة البروفيسور هورطون إلى زيارة إسرائيل للاطّلاع عن كثب على الواقع الإسرائيليّ بعامّة، وعلى الجهاز الصحّيّ على نحو خاصّ.

تنشر مجلّة “لانست” من حين إلى آخر استعراضات شاملة للجهاز الصحّيّ في دولة معيّنة، بغية النهوض بنظرة عالميّة شاملة على موضوع الصحّة والطبّ. ومن بين الدول التي حظيت حتّى الآن بهذه التغطية نذكر: البرازيل وكوريا الجنوبيّة وفرنسا ومناطق السلطة الفلسطينيّة. على ضوء زيارة البروفيسور هورطون للبلاد، عُرضت فكرة قيام المجلّة بتوفير منصّة لعرض الجهاز الصحّيّ في إسرائيل، فاستجاب لها عدد من الأطبّاء والباحثين في جهاز الصحّة في إسرائيل مع عدد من الجهات المؤسّسيّة، من بينها وزارة الصحّة، ومستشفى رمبام في حيفا، وجامعة بن غوريون في النقب، ونقابة الأطبّاء، والمعهد القوميّ لأبحاث الصحّة والسياسات الصحّيّة، وجرت كتابة سلسلة من المقالات في مجالات متنوّعة.

محرّرو سلسلة المقالات هم البروفيسور مارك كارفيلد من جامعة بن غوريون، والبروفيسور زاهر عزّام من مستشفى رمبام، والبروفيسورة أورلي مانور من الجامعة العبريّة. تضمّ السلسلة أحد عشر مقالًا، خمسة من بينها شاملة وستّة مقتضبة، وتتناول المواضيع التالية: تاريخ الجهاز الصحّيّ في إسرائيل؛ صحّة الأمّ والطفل؛ تحدّيات العلاج الطبّيّ للمسنّين؛ فجوات في الصحّة؛ صحّة المرأة؛ الوراثيّات الطبّيّة لدى شرائح سكّانيّة متنوّعة؛ الأخلاقيّات الطبّيّة؛ إسرائيل كدولة مبادرات في العلوم الاجتماعيّة؛ الصحّة الرقْميّة (الديغيتاليّة)؛ التثقيف الطبّيّ. إلى ذلك أُدْرِجَ في العدد استعراض مقتضب للمساعَدات التي تُقدَّم للمصابين من الحرب الأهليّة في سوريا. تكشف المقالات النقاب عن إنجازات الجهاز الطبّيّ في إسرائيل، وتتناول تنويعة التحدّيات التي تواجه هذا الجهاز، وتشمل كذلك توصيات موجَّهة إلى صُنّاع القرار.

تتناول المقالة الأولى قانون التأمين الصحّيّ الرسميّ في إسرائيل، والمنظومة الخدماتيّة التي تحيط به، والتكنولوجيّات النوعيّة المتطوّرة المتوافرة لعموم السكّان.[1] تتناول المقالة أيضًا المؤشّرات الصحّيّة الجيّدة في إسرائيل، بما في ذلك متوسّط العمر المتوقَّع عند الولادة الذي يتفوّق على المعدّل العامّ لدول OECD، حيث جاءت إسرائيل في المكان الرابع في صفوف الرجال، وفي المكان الحادي عشر في صفوف النساء. على الرغم من ذلك، تتناول المقالة العديد من التحدّيات، ولا سيّما الارتفاع في خصخصة الخدمات التي كانت عامّة في أساسها، والنقص في ميزانيّات عدد من القِطاعات الذي أدّى هو كذلك إلى توافر عدد قليل نسبيًّا في الأَسِرّة العلاجيّة. كذلك تشير المقالة إلى وجود فجوات متواصلة في الخدمات الصحّيّة بين المجموعات السكّانيّة، ولا سيّما بين اليهود والعرب، ومناطق المركز مقابل مناطق الأطراف، وكلّ ذلك على الرغم من الاستثمارات الاقتصاديّة والتنظيميّة الضخمة. يوصي كاتبا المقالة -في ما يوصيان- وزارة الصحّة أن تمتنع عن تقديم الخدمات المباشرة (من خلال ملْكيّة بعض المستشفيات، على سبيل المثال)، وأن تتمحور في التخطيط البعيد المدى للجهاز الصحّيّ والإشراف عليه، وثمّة توصية أخرى تتعلّق بزيادة تمويل الجهاز الصحّيّ الجماهيريّ العامّ. وتشير المقالة أنّ الجهاز الطبّيّ، على العكس من مجالات أخرى، لا يعترف بالمعوّقات والحواجز العرْقيّة أو الدينيّة، ويتميّز بوجود تعاون مكثّف وعميق بين اليهود والعرب. وعلى ذلك، يقدّمون توصية بفحص إمكانيّة توسيع هذا التعاون إلى مجالات أخرى.

جرى إطلاق سلسلة المقالات هذه في مطلع أيّار عام 2017، في إطار المؤتمر السنويّ الذي يعقده المعهد القوميّ لدراسة الخدمات الصحّيّة والسياسات الصحّيّة، وفي لقاءات علميّة جرت في حيفا وبئر السبع والناصرة. عُقِد اللقاء في الناصرة بالتعاون مع مستشفيات المدينة الثلاثة، وتناول الفجوات في الصحّة بعامّة، والفجوات في صحّة الأمّ والطفل على نحو خاصّ، ونادى الباحثون الذين يعملون في مجال الفجوات بضرورة استثمار المزيد من الميزانيّات في مناطق الأطراف؛ وبناء برامج لنهوض بالصحّة مع ملاءَمتها لثقافة جمهور الهدف واحتياجاته، والعمل على وجه السرعة على تقليص نسب التدخين في صفوف الرجال العرب عبْر برامج تدخُّل تثقيفيّة خاصّة.[2] تتناول المقالة حول صحّة الأمّ والطفل تنويعة من العوامل، من بينها الروابط العائليّة القويّة، ومخصّصات الأولاد، والتعليم المجّانيّ من سنّ الثالثة، والخدمات الصحّيّة العامّة والخدمات الواسعة للطبّ الوقائيّ؛ وجميعها تُفضي إلى النتائج الطيّبة التي تحصدها إسرائيل في كلّ ما يتعلّق بنسب وفيات الرضَّع ووفَيات الأمّهات، وهي نسب متدنّية جدًّا مقارَنةً بالمعدّل في دول OECD.[3] على الرغم من ذلك، تخيّم على هذه الإنجازات نسب الفقر العالية في صفوف الأطفال، ولا سيّما في صفوف الجمهور العربيّ. تلخّص المقالة مؤشّرات صحّيّة، وتلقي الضوء على الفجوات القائمة، وتَعرض مجموعة من التوصيات الـمُعَدّة لتعزيز الجهاز الصحّيّ كي يتمكّن من تقديم أفضل الحلول لاحتياجات المجموعات السكّانيّة المختلفة.

يلخّص البروفيسور سكورتسكي والبروفيسور هورطون في مقالتهما “إسرائيل: الصحّة وما وراءها”[4] قائلين إنّ سلسلة المقالات تُظهر توافُرَ فرصة هائلة لإسرائيل لتسخير المبادئ الصحّيّة الكونيّة لمعالَجة الصراع القوميّ وانعدام المساواة، والعمل بالتالي على ضمان مستقبل أفضل لمنطقتنا. يتضمّن العدد -على نحوٍ استثنائيّ وللمرّة الأولى في “لانست”- ملخَّصات للمقالات باللغتين العبريّة والعربيّة ويعرض غلافه نوافذ “شاغال” المنصوبة في مستشفى هداسا.

في نهاية أسبوع إطلاق المقالات، استضاف رئيس الدولة رئوفين (روبي) ريفلين البروفيسور هورطون والكتّابَ الأساسيّين في العدد. بعد تسلُّمه العدد الخاصّ، قدّم الرئيس شكره وامتنانه لهم على هذه المبادرة المهمّة وقال: “علينا جميعًا العمل على أن يقوم الطبّ والعلم بتوجيه السياسة لا العكس. يحدوني أمل أن يَقْدمَ قراؤكم إلى إسرائيل كي يطّلعوا عن كثب على الإنجازات التي حقّقناها هنا، ولمشاركتنا في بناء مستقبل أفضل”. في معرض إجابة البروفيسور هورطون، تناول إنجازات الجهاز الطبّيّ في إسرائيل وأضاف قائلًا: “نريد أن نرى في إسرائيل مجتمعًا عالميًّا يوسّع المشاركة الدوليّة والتعاون مع أرجاء العالم. هذا الطاقم وأنا، شخصيًّا، نعارض المقاطَعة على إسرائيل معارَضة مطلَقة. المقاطَعة ليست هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع الاختلافات في وجهات النظر”.

بوصفي من محرّري هذه السلسلة، ورئيسة المعهد القوميّ لدراسة الخدمات الطبّيّة وسياسات الصحّة في إسرائيل الذي تجنّد لصالح المشروع، أشعر بالاعتزاز والفخر لإسهامنا في هذا التعاون المثمر. أومن بالحِوار ولا أومن بالمقاطَعة، والأحداث التي جرى توصيفها هنا تسوّغ هذا الطرح. في العامين الأخيرين، انتقلت مجموعة الكتّاب الرئيسيّين من الارتياب وعدم الاتّفاق والغضب إلى الثقة والحِوار والعمل الإيجابيّ.

 


ترجم المقال من العبرية جلال حسن *

[1] Mark A. Clarfield, Orly Manor, Gabi Bin Nun, Shifra Shvarts, Zaher S. Azzam, Arnon Afek, Fuad Basis and Avi Israeli, “Health and Health Care in Israel: An Introduction”

[2] Khitam Muhsen, Manfred S. Green, Varda Soskolne and Yehuda Neumark, “Inequalities in non-Communicable Diseases between the Major Population Groups in Israel: Achievements and Challenges”

[3] Lisa Rubin, Ilana Belmaker, Eli Somekh, Jacob Urkin, Mary Rudolf, Mira Honovich, Natalya Bilenko and Zachi Grossman, “Maternal and Child Health in Israel: Building Lives”

[4] Karl Skorecki and Richard Horton, “Israel: Health and Beyond”

[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=”البروفيسورة أورلي مانور” image=”1011″]محاضِرة في مدرسة براون للصحّة الجماهيريّة العامّة في الجامعة العبريّة في القدس؛ ورئيسة المعهد القوميّ لدراسات الخدمات الصحّيّة والسياسات الصحّيّة في إسرائيل.[/our_team][/vc_column][/vc_row]

[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text css_animation=”appear”]أحببت الطبيعة منذ نعومة أظفاري، ولذا كان من الطبيعيّ أن أختار موضوع البيولوجيا في دراستي الأكاديميّة. لكن بعد عام دراسيّ واحد في الجامعة العبريّة، فهمت من قلّة عدد الطلبة العرب الذين كانوا يدرسون لنيل الدكتوراه في هذا القسم أنّ الآفاق المهنيّة وسبل الكسب من هذه المهنة محدودة جدًّا. فرص الانخراط في البحث ليست وفيرة، ويمكن لي في أحسن الأحوال أن أصبح مدرّسًا في إحدى المدارس الثانوّية. في السنة الثانية، توجّهت إلى طبّ الأسنان وبقيت هناك حتّى هذه الأيّام: صاحب عيادة خاصّة تعجّ بالزبائن في قرية كفر كنّا، وطبيب أسنان في كيبوتسَيْن اثنين. السببان الرئيسيّان اللذان وقفا من وراء عملي خارج القرية هو رغبتي في التواصل مع المجتمع اليهوديّ، والتعرّف على ثقافته وأسلوب معيشته، وكذلك رغبتي في أن يرى اليهود جانبًا آخر من العرب: عربيّ يمكن له أن يكون طبيبًا، وإنسانيًّا وحضاريًّا، بما يتعّدى الصورة النمطيّة التي يجري عرضها في الأخبار. عندما يجلس المعالَـج على الكرسيّ في العيادة ويضع صحّته بين يديّ، لا بدّ له أن يثق بي. في بداية طريقي، لاحظت بعض التحفّظات هنا وهناك، ولا سيّما بسبب صغر سنّي، لكن مع مرور السنين تولّدت ثقة بيني وبين زبائني اليهود الذين أصبحوا يتوجّهون إليّ اليوم بدون تردّد. على الرغم من ذلك، لزام على العربيّ أن يتميّز أكثر من غيره كي يثبت نفسه وينجح.

الطبيب يريد مصلحة الشخص الذي يعالجه. هذا ما يوجّهه، ولذا فهو لا يكترث لهُويّة من يقف أمامه. الجميع متساوون. أومن أنّ من يختار تعلُّم مهنة الطبّ يتحلّى منذ البداية بدرجة كبيرة من الإنسانيّة، ولذا فهو يتعامل مع المعالَج على أنّه إنسان دون أيّ نوع من التحيُّز. هذا هو قَسَم الطبيب. نحن نعيش هنا معًا، وأنا أرغب في مواصلة هذا النوع من العيش. التعارف العميق بيني وبين اليهود الذين أعالجهم خلق حركة معاكسة للواقع السياسيّ الحاليّ. الـمُناخ العامّ شديد الصعوبة، على الرغم من أنّني لا أشعر بذلك في عملي، فالحكومة المتطرّفة تحاول نزع الشرعيّة عنّا، وثمّة تصعيد في سَنّ القوانين المعادية للعرب في الكنيست، وثمّة سعي لكمّ أفواه الصحفيّين. الأوضاع في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة مزرية جدًّا، وتقوم الحكومة بالاستثمار في المستوطنات بدل أن تستثمر في الصحّة والرفاه. أسعى لتحسين أوضاعنا جميعًا، وأعتقد بضرورة العمل يدًا بيد من أجل مستقبل أفضل.

هرولة الشباب العرب في الآونة الأخيرة إلى دراسة الطبّ لا تنبع من الخيار الحرّ فحسْب، بل كذلك من القيود والمعوّقات، وهذا الأمر يقضّ مضجعي. مئات الشبّان من قريتي -على سبيل المثال- يتعلّمون الطبّ في الكثير من الجامعات في العالم، وبعضها لا يتحلّى بمستويات مرموقة. الطبّ موضوع مرموق ومحترم، ومستقبل الطبيب مضمون. في فترة سابقة، توجّه الشبّان العرب لدراسة الهايتك، لكن سرعان ما تبيّن لهم أنّ الإمكانيّات في هذا المجال محدودة جدًّا، فالصناعات العسكريّة مغلقة أمام العرب، والوظائف غير مستقرّة، والمستقبل لا يبدو مضمونًا. في المقابل، يُعتبر الطبّ مجالًا مضمونًا على امتداد الحياة. هذه الظاهرة ليست جديدة؛ فقد سافر العرب إلى خارج البلاد على الدوام لدراسة الطبّ، ولا سيّما في الفترة التي أرسل الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ أعضاء منه للدراسة في دول الكتلة الاشتراكيّة قبل انهيار الأنظمة هناك. الوضع يختلف الآن؛ إذ تتوجّه أعداد غير مسبوقة من الشبّان العرب لدراسة الطبّ في خارج البلاد، لأنّ شروط القبول في البلاد بالغة الصعوبة، ولا تتعدّى نسبةُ المقبولين من بين الطلبة العرب الذين يتقدّمون لامتحانات القبول في الجامعات الاسرائيلية 10% في المجموع العامّ، ولذا يسافر الكثير منهم للدراسة في بلدان أخرى، ومنها الأردنّ والضفّة الغربيّة. في الفترة الأخيرة، اجتاز أكثر من مئتَيْ طبيب عربيّ امتحانات الترخيص الحكوميّة، وشكّل الأمر مدعاة فخر شديد في الشارع العربيّ. على الدولة أن تعمل على توسيع إمكانيّات دراسة الطبّ في البلاد، وأن تعمل في المقابل على تشجيع الدراسة في الجامعات المرموقة خارج البلاد، وذلك في سبيل المحافظة على المستويات اللائقة في هذا الحقل.

إلى جوار عملي الجاري، أنشط كذلك في جمعيّة أطبّاء الأسنان العرب التي كنت من بين مؤسّسيها في العام 2000. في تلك الفترة، واجهتنا صعوبات في التعامل مع نقابة أطبّاء الأسنان العامّة، التي تُعتبر جسمًا نقابيًّا قويًّا تتوافر لديه ميزانيّات ضخمة ويتحكّم في عمليّة ترخيص الأطبّاء. شعرنا أنّنا لا نحصل على تمثيل كافٍ في هذه المنظّمة، ولا تجري مراعاة احتياجاتنا، حتّى الرمزيّة منها. على سبيل المثال: الكثير من الاستكمالات أجرتها النقابة في أيّام أعياد المسلمين والمسيحيّين، ولم يحصل أن عُقدت استكمالات ومؤتمرات ودورات في المدن والقرى العربيّة. وكان ثمّة كذلك بعض التجاوزات وحالات فساد. فعلى سبيل المثال، عندما أُدخلت بعض التغييرات على النظام الداخليّ، تبيّن لنا لاحقًا أنّ الهدف منها هو إقصاء اللواء الشماليّ في النقابة، وهو اللواء الذي ينتمي إليه معظم الأطبّاء العرب. ولذا، قرّرنا في نهاية الأمر إقامة جمعيّة خاصّة بنا، تسعى إلى النهوض بأمور أطبّاء الأسنان العرب ورفع مستوى الخدمات بالطرق التي تلائمنا. في هذا الأيّام، تضمّ الجمعيّة أكثر من 100 طبيب، وقد أقمنا مركز استكمالات في مدينة شفاعمرو هو الأكثر تطوُّرًا وتجهيزًا في الشرق الأوسط، وهذا الأمر يشكّل مدعاة للفخر والاعتزاز. المركز يضمّ 25 محطّة علاج، ويجري تصوير الطبيب الموجِّه، ويستطيع الجميع مشاهدته. عندما نُجري عمليّة جراحيّة يستطيع كلّ من يجلس في القاعة متابعتها بأدقّ التفاصيل. نعقد الكثير من الدورات، ويشارك فيها أطبّاء يهود أيضًا. أسعارنا أرخص من أسعار شركات ومراكز أخرى تُجري أمورًا مماثلة. منذ نشأة الجمعيّة، اعترفت بأهمّيّة العمل المجتمعيّ وتثقيف الجمهور بشأن صحّة الفم والأسنان، وقمنا بإجراء فحوص للطلّاب في المدارس، وأشركنا الأهالي بنتائجها، وأجرينا نشاطات عامّة لتعزيز الوعي لأهمّيّة المحافظة على صحّة الأسنان، وتواصلنا مع أقسام الخدمات الاجتماعيّة في السلطات المحلّيّة التي ترسل لنا أشخاصًا يعالجهم المستكمِلون في دوراتنا، ممّا يعود بالفائدة على الجميع.

في العام 2014، عقدنا مؤتمرًا دوليًّا لطبّ الأسنان المجتمعيّ (هو الأوّل من نوعه في إسرائيل) في مدينة الناصرة لمدّة يومين، حضره ما يربو على 550 طبيبًا، وشارك فيه اختصاصيّون دوليّون من 15 دولة، وأطبّاء من هداسا ومن صندوق المرضى العامّ. عقدنا المؤتمر الثاني في أيّار عام 2017. على ضوء هذين المؤتمرين، تبيّن للجميع أنّ جمعيّتنا قويّة وتمثّل قِطاعًا واسعًا من أطبّاء الأسنان، ولذا لا تمكن مواصلة تجاهلها. منذ ذلك الحين، بدأت الجامعات والأجسام الأخرى التي رفضت التعاون معنا بسبب الضغوط التي مارستها نقابة أطبّاء الأسنان العامّة عليها، بدأت تتوجّه إلينا بمقترحات للتعاون المشترك.

أشير كذلك بفخر واعتزاز أنّ جمعيّتنا كانت الجسم السبّاق للنهوض بقانون صحّة الأسنان الرسميّ الذي بادر إليه وزير الصحّة يعكوف ليتسمان، فقبل سَنّ القانون عانى العرب والحاريديّون من صعوبات في الحصول على علاجات أسنان لائقة، ولم تتعدَّ نسبة أطفال هاتين المجموعتين الذين خضعوا للفحص والعلاج أكثر من 20% من المجموع العامّ، وعليه عانى هؤلاء في كبرهم من مشاكل طبّيّة صعبة. اليوم تتوافر علاجات الأسنان مجّانًا للأولاد حتّى سنّ الخامسة عشرة، وبلغت نسبة الأطفال الذين يتلقَّوْن العلاج في هاتين المجموعتين 54%. ثمّة الكثير يمكن فعله، ونحن نعمل في هذه الفترة على رفع سِنّ العلاجات المجّانيّة إلى الثامنة عشرة. كذلك نعمل في الجمعيّة بكلّ كدّ ونشاط من أجل منح علاجات أسنان مجّانيّة أو بأسعار مدعَّمة للمسنّين والأفراد الذين يعتمدون في معيشتهم على مخصّصات التأمين الوطنيّ، ولا يستطيعون أن يموّلوا علاجاتٍ للأسنان ناجعةً.

ثمّة نشاط آخر واستثنائيّ تقوم به جمعيّتنا، وهو توفير علاجات الأسنان للأسرى والمعتقلين الفلسطينيّين في السجون الإسرائيليّة. بدأ الأمر بمبادرة فرديّة من قِبل أحد الأعضاء، وتحوّل الآن إلى عمل روتينيّ، حيث يُـحظَر على أطبّاء الأسنان الفلسطينيّين الدخول إلى السجون والمعتقلات، ويتحفّظ الأطبّاء اليهود من القيام بذلك. نقدّم للأسرى في السجون علاجات الإسعاف الأوليّ، ونتدخّل كذلك عندما تتولّد الحاجة إلى تقديم علاجات مهنيّة متواصلة. تُـحوِّل السلطة الفلسطينيّة للجمعيّة رسومًا رمزيّة مقابل هذه الخدمة لتغطية المصروفات. في بعض الأحيان، نصطدم بعقبات بيروقراطيّة، لكنّها لا تَثنينا عن مواصلة رسالتنا الإنسانيّة هذه.

على الرغم من الاكتفاء الكبير الذي أستمدّه من عملي، وعلى الرغم من شغفي بهذه المهنة، حاولت أن أَثْني ابنتي عن رغبتها في دراسة طبّ الأسنان بعد أن أنهت دراستها الثانويّة، وسعيت لإقناعها بدراسة موضوع آخر، لأنّها تميّزت بموضوعَيِ الرياضيّات وعلوم الحاسوب، لكنّها بقيت عند رأيها وقالت لي: أريد أن أعمل مع الناس، ولا أريد أن أجلس قبالة الحاسوب طَوال اليوم. هذا هو إذًا جوهر مهنة الطبّ: العمل مع الناس ومساعدتهم.

 


* ترجم المقال من العبرية جلال حسن[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” heading=” د. عارف مطر” image=”1002″]طبيب أسنان، كفر كنّا[/our_team][/vc_column][/vc_row]