[vc_row][vc_column width=”3/4″][vc_column_text]لا شك بان المنجز الأدبي العربي في البلاد (في حدود اسرائيل- الخط الاخضر) يكاد يكون معجزة ثقافية اذا أخذنا بعين الاعتبار ظروف نشوئه وتطوره بعد النكبة. في النكبة دمرت المدينة الفلسطينية ومراكزها الثقافية وصحافتها التي كانت مزدهرة كما شرد معظم الأدباء الذين قادوا الحركة الأدبية في ذلك الوقت وعلى رأسهم أبو سلمى عبد الكريم الكرمي وهارون هاشم رشيد وخليل السكاكيني ووديع البستاني وجميل البحيري وعشرات مثلهم، وكان على من بقي هنا أن يبعث الحياة من جديد في الحركة الأدبية في ظل حكم عسكري ورقابة شديدة أنزلت على النصوص الأدبية ووسط ملاحقات واعتقالات وإقامات اجبارية فرضت على العديد من الشعراء والكتاب والمثقفين الذين واصلوا مسيرة الحركة الثقافية في حيفا والناصرة ويافا، والاقسى من كل ذلك كانت حالة القطيعة مع العالم العربي، أي انقطاعنا شبه التام عن فضائنا العربي العام واقتصار التواصل معه على الاذاعات العربية حتى العام 1967، هذه الاذاعات الرسمية التي نقلت لنا خطاب الانظمة العربية الرجعية، ومن جهة أخرى، تعرف علينا العالم العربي عبر اذاعة اسرائيل الرسمية باللغة العربية التي أبرزت “العلاقات الطيبة والتعايش والانجازات التي حققتها لنا الدولة وانحيازنا لها”. وكانت الكتب تتسلل إلينا بنسخ محدودة جدا تنقلت من قرية إلى قرية وكان هناك من ينسخها بخط اليد ليحتفظ بها أو ليقرأها أقرباؤه. وأما كتبنا فلم تصل إلى العالم العربي ولم توزع فيه إلى ان اكتشف الكاتب غسان كنفاني والحزب الشيوعي اللبناني بعد العام 1967 ما أطلقوا عليه “ادب المقاومة” اي الادب المناهض للصهيونية والاحتلال، ادب التيارين القومي (حركة الأرض) والأممي (الحزب الشيوعي) وعرفت في ذلك الوقت أسماء مثل حبيب قهوجي وصبري جريس وراشد حسين وتوفيق فياض واميل حبيبي وتوفيق زياد وحنا أبو حنا ومحمود درويش وسميح القاسم ولمعت هذه الأسماء في العالم العربي في أجواء النكسة وخيبة الأمل من نتائج حرب حزيران كأصوات تدعو “من قلب فلسطين” إلى عدم الاستسلام للهزيمة.

كان الاهتمام الزائد بأدب الداخل يحظى برواج وتأييد شعبيين وفي أوساط مؤيدة للأنظمة العربية وكذلك في أوساط يسار عربي مناهض للأنظمة العربية، فكيف استطعنا ان نجمع بين متناقضين؟

أعتقد أن اوساط اليسار العربي المناهض للأنظمة اهتمت بأدبنا وروّجت له لكي تقول لجماهيرها إن هذه الفئة العربية الفلسطينية التي تقبع تحت النظام الصهيوني الذي انتصر على أكبر جيشين عربيين (المصري والسوري في حرب حزيران 67) تقف وتتحدى جلادها بقصائد ثورية ووطنية، فلنتعلم منها ما معنى التحدي! وأما الانظمة العربية فقد روجت لأدبنا الثوري المقاوم (بينما اعتقلت الثوريين ولاحقتهم في بلادها) لتوظيف هذا الصوت “القادم من فلسطين” لدعم خطابها الاعلامي ضد الصهيونية ودفاعا عن “قضية مقدسة” لتصرف النظر عن هموم ومطالب شعوبها. هكذا كسبنا اجماعا عربيا شكل هالة تقديس حول أدبنا ورموزه في تلك الفترة لدرجة ان محمود درويش أطلق صرخته عام 1968: “أنقذونا من هذا الحب القاسي!”.

في حوالي خمسين عاما “جرت مياه كثيرة في نهر الأردن”، كل شيء تغير. كانت حروب كثيرة والاحتلال أخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة وكانت اتفاقيات “سلام” مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وأصبح الوصول إلى العالم العربي متاحا ولم تبق حواجز تحد من وصول الكتب إلى العالم العربي او وصول اي كتاب عربي إلى حيفا والناصرة، ومع حدوث الثورة التكنولوجية العالية في العقدين الاخيرين ومواقع التواصل الرقمية أصبح الفضاء العربي مفتوحا امام الأدباء والفنانين الفلسطينيين من الداخل ويكاد يكون عاديا المشاركة في مهرجانات ومؤتمرات في العالم العربي (في الدول المتاح دخولها لحاملي جوازات السفر الاسرائيلية).

السؤال الذي يطرح اليوم: هذا الانفتاح على العالم العربي، كيف ينعكس على الأدب الفلسطيني في الداخل؟

في العام 1988 أقيمت في وزارة الثقافة الاسرائيلية دائرة الثقافة العربية التي رصدت لها ميزانيات (قليلة نسبيا) ولكنها أحدثت تحولا كبيرا في الثقافة الفلسطينية في الداخل وتعزز هذا التحول في أعقاب تفاهمات أوسلو بين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، اذ أنه وفقا لهذه التفاهمات تصبح قضايا العرب في اسرائيل ومستقبلهم شأنا اسرائيليا داخليا والسلطة الوطنية الفلسطينية هي فقط على المناطق المتفق عليها في الضفة الغربية وقطاع غزة. مشروع أسرلة الفلسطينيين في الداخل وثقافتهم الذي بدأت به السلطات الإسرائيلية غداة العام 1948، وصل إلى نهايته في السبعينيات بعد ان فشل فشلا ذريعا أمام حالة النهوض القومي الذي أحدثته حرب أكتوبر 1973 وتوجت هذا النهوض الانتفاضة الأولى في العام 1987، هذا المشروع يبعث من جديد مدعوما باقامة دائرة الثقافة العربية في الوزارة الاسرائيلية وفي ما بعد باعتراف منظمة التحرير بأن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني يقع خارج دوائر اهتمام المؤسسة الفلسطينية.

دائرة الثقافة العربية تحولت إلى ناشر للكتب، بدأت بتوزيع ما يسمى جوائز الابداع على الكتاب دون تمييز ودون اعتبارات أدبية أو فنية أو سياسية وأيديولوجية ويبدو من التركيبة الطائفية للحائزين عليها في كل عام أن الاعتبار الوحيد هو “التمثيل الطائفي” ، مسلم، مسيحي، درزي ويهودي يكتب باللغة العربية.

حتى ذلك الحين تميز الأدب الفلسطيني في الداخل بكونه “أدب مقاومة” ولكن بعد هذه المرحلة تفككت قيود الالتزام بالهم الوطني وأغرقت دائرة الثقافة العربية المكتبات الشخصية بمئات الكتب التي لا يرتقي الجزء الأكبر منها إلى اي مستوى وفقد الكتاب الفلسطيني المحلي رونقه وجماليته وقيمته المعنوية والثقافية والاجتماعية وهكذا الأدباء أيضا، ولمعت اسماء وسرعان ما انطفأت وطغى هذا السيل من الكتب التي لا هوية لها على الحركة الادبية الفلسطينية في البلاد وعلى تميزها باعتبارها أدب مقاومة ولها خصوصيتها وجماليتها أيضا، وبالطبع لم تعد لافتة للنظر لا محليا ولا عربيا ولا فلسطينيا. من ناحية اخرى بقيت هوية هذا الأدب في اوساط الاهتمام الثقافي العربي قائمة على جيل الرواد وتوقفت عنده.

الانتفاضة الثانية في عام 2000 بدأت تعيد ترتيب الاوراق، وصار من جديد يبرز حضور تيار أدب المقاومة أو الادب الوطني بأقلام من بقي على قيد الحياة وكذلك الجيل الأدبي الذي جاء بعدهم ولكن جيل الكتاب الشباب الذين بداوا طريقهم في العقدين الأخيرين يكتب محررا من هذا الالتزام متأثرا بتيار ما بعد الحداثة المنفصل عن الهم الجماعي وأسير فرداويته.

ما يسمى جيل الشباب يكتب بتأثير مصادره الحديثة، القراءة بلغات غير لغته العربية وبالأساس العبرية والانجليزية. القراءة عبر الانترنيت لنصوص من العالم العربي والعالم ولم تعد “التيمات” الكبرى تشغله مثل الحرب والسلام والوطن والارض والاحتلال إلا بما يعرقل سير حياته اليومي ويسبب لها اضطرابا غير مبرر.

في السابق كان صدور الكتاب الفلسطيني في حيفا والناصرة ويافا والقدس ناجما عن موقف وطني يقع ضمن الصراع على الهوية والبقاء، وبسبب غياب دور النشر المحلية (هناك تجار كتب يطبعون الكتب) فقد صارت عملية النشر محررة من “وطنها” وكثيرون من الكتاب الشباب ينشرون كتبهم بواسطة دور نشر اردنية او لبنانية أو مصرية مقابل مبلغ من المال يغطي نفقات الطباعة الرخيصة نسبيا في هذه الدول. الناشرون العرب هنا ومعظم الناشرين التجاريين في العالم العربي لا يوظفون محررين مهنيين وفي أحسن الأحوال هناك مدقق لغوي (مع ذلك تكثر الأخطاء اللغوية) وينشر الكتاب كما يعدّه الكاتب نفسه. الكاتب يحصل على كمية قليلة من الكتب قد لا تكفي لتوزيعها على أصدقائه والناشر في العالم العربي الذي يلتزم عادة بطباعة ألف نسخة فقط (اذا صدق) يضع هذه الكتب بين عناوينه ويعرضها في المعارض العربية، لكن من سيبحث في المغرب او الجزائر عن كاتب محلي لم يسمع به؟ تطبع الكتب رخيصة في الأردن وأما هنا وهناك وفي العالم العربي الواسع فيظل الكتاب الفلسطيني من الجليل والكرمل والمثلث يبحث عن قاريء. او ناقد او مراسل صحفي ثقافي يلتفت إليه في صالات معارض الكتب.

وهنا يكتفي الأديب الشاب بجملة يدونها في سيرته الادبية باعتزاز: صدر الكتاب في عمان او القاهرة او بيروت. عادة الكتاب الثاني يظل في الدرج أو في ملفات الاجهزة وشيئا فشيئا يرى النور قطعة قطعة على الفيسبوك.

(دالية الكرمل، حزيران 2015)

 

[/vc_column_text][/vc_column][vc_column width=”1/4″][our_team style=”vertical” image=”232″ heading=”سلمان ناطور”]سلمان ناطور هو اديب وكاتب مسرحي
تصوير: غدير كيوف[/our_team][/vc_column][/vc_row]

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *